ادب المقاومة و المقاومين كتابات إلى كل مناضل ..إلى نفسي إحياء لمقاومتها صبرا على الآفات إلى كل صادق في هدا البلد الذي أظناه الغباء وسلطة الأفراد إلى روح الجماعة ..إلى امرأة ..إلى سمش ..إلى روح الجماعة إلى عنادي الذي علمني الرفض ودفع الضرائب إلى القلم الذي أنجب مني الكلمات وأنجبت منه المعاناة

الأحد، 20 يوليو 2008

ملف غارسيا ماركيز -غابرييل غارسيا ماركيز

أجمل غريق في العالم -غابرييل غارسيا ماركيز

الكاتب/ أنفاس

انفاسظنّه الأطفال لمّا رأوه ، أول مرة ، أنه سفينة من سفن الأعداء. كان مثلَ رعنٍ أسود في البحرِ يقترب منهم شيئا فشيئا. لاحظ الصبيةُ أنه لا يحمل راية ولا صاريًا فظنوا حينئذٍ أنه حوتٌ كبير، ولكن حين وصل إلى ترابِ الشاطيء وحوّلوا عنه طحالبَ السرجسِ و أليافَ المدوز و الأسماكَ التّي كانت تغطيهِ تبيّن لهم أنّه غريق.

شرعَ الصبيةُ يلعبون بتلك الجثة يوارونها في الترابِ حينًا ويخرجونها حينًا حتّى إذا مرّ عليهم رجلٌ ورأى ما يفعلون نَهَرهم وسعى إلي القريةِ ينبه أهلها بما حدث.

أحسّ الرجالُ الذين حملوا الميّتَ إلى أول بيتٍ في القرية أنه أثقل من الموتى الآخرين ، أحسّوا كأنهم يحملون جثّةَ حصانٍ وقالوا في ذات أنفسهم :

“ربما نتج ذلك عن بقاء الغريق فترة طويلة تحت البحرِ فدخل الماءُ حتى نخاع عظامه.”

عندما طرح الرجالُ الجثةَ على الأرضِ وجدوا أنّها أطولُ من قامة كلّ الرجال ، كان رأس الميتِ ملتصقًا بجدار الغرفة فيما اقتربت قدماه من الجدارِ المقابلِ ، وتساءل أحد الرجال عمّا لو كان ذلك ناتجًا عن أن بعض الغرقى تطول قاماتُهم بعد الموت.

كان الميتُ يحمل رائحةَ البحر ، وكانت تغطيه طبقةٌ من الطين و الأسماك. لم يكن من الضرورة تنظيف الوجه ليعرف الرجال أن الغريق ليس من قريتِهم ، فقريتهم صغيرة لا تحوي سوى عشرين من البيوت الخشبية الصغيرة ، و كانت القرية نادرةَ التربة مما جعل النسوة يخشين أن تحمل الريحُ الأطفال ومنع ذلك الرجالَ من زرع ِ الأزهار ، أمّا الموتى فكانوا نادرين لم يجد لهم الأحياءُ مكانًا لدفنهم فكانوا يلقون بهم من أعلى الجرف..

كان بحرُهم لطيفًا ، هادئًا و كريمًا يأكلون منه. لم يكن رجالُ القرية بكثيرين حيث كانت القوارب السبعةُ التي في حوزتهم تكفي لحملهم جميعًا ، لذلك كفى أن ينظروا إلى أنفسهم ليعلموا أنه لا ينقص منهم أحد..

في مساءِ ذلك اليوم لم يخرج الرجال للصيدِ في البحر. ذهبوا جميعًا يبحثون في القرى القريبة عن المفقودين فيما بقتِ النسوة في القريةِ للعناية بالغريق …أخذن يمسحن الوحلَ عن جسده بالألياف ويمسحن عن شعره الطحالب البحرية ويقشّرن ما لصق بجلده بالسكاكين..

لاحظت النسوة أن الطحالب التي كانت تغطي الجثة تنتمي إلي فصيلة تعيش في أعماقِ المحيطِ البعيدة ، كانت ملابسه ممزقة وكأنه كان يسبح في متاهةٍ من المرجان. ولاحظت النسوة أيضا أن الغريقَ كان قد قابل مَلَكي الموتِ في فخرٍ و اعتزاز فوجهه لا يحمل وحشةَ غرقى البحرِ ولا بؤس غرقى الأنهار. وعندما انتهت النسوة من تنظيف الميّت وإعداده انقطعت أنفاسهن ، فهن لم يرين من قبل رجلاً في مثل هذا الجمال و الهيبة..

لم تجد نساء القرية للجثة، بسبب الطولِ المفرطِ ، سريرًا ولا طاولة قادرة على حملها أثناء الليل. لم تدخل رِجْلا الميتِ في أكبرِ السراويل و لا جسدُه في أكبرِ القمصان ، ولم تجد النسوة للميّت حذاءً يغطي قدميه بعد أن جربوا أكبر الأحذية.

فقدت النسوة ألبابَهن أمام هذا الجسدِ الهائلِ فشرعن في تفصيل سروالا من قماشِ الأشرعة و كذلك قميصًا من “الأورغندي” الشفاف فذلك يليق بميّتٍ في مثل هذه الهيبة و الجمال..

جلست النسوة حول الغريق في شكلِ دائرةٍ بين أصابع كل واحدةٍ منهن إبرة وأخذت في خياطة الملابس ، كن ينظرن بإعجاب إلى الجثة بين الحين و الحين؛ بدا لهن أنه لم يسبق للريح ِ أن عصفت في مثل هذه الشدة من قبل ولا لبحر “الكاراييب” أن كان مضطربًا مثل ذلك المساء. قالت إحداهن ” أن لذلك علاقة بالميّت” ، وقالت أخرى ” لو عاش هذا الرجل في قريتنا لاشك أنه بنى أكبر البيوت وأكثرهن متانة ، لاشك أنه بنى بيتًا بأبواب واسعة وسقفٍ عالٍ وأرضيةٍ صلبة ولاشك أنه صنع لنفسه سريرًا من الحديد و الفولاذ ، لو كان صيادًا فلاشك أنه يكفيه أن ينادى الأسماك بأسمائها لتأتى إليه. ، لاشك أنه عمل بقوة لحفر بئرٍ ولأخرج من الصخور ماءً ولنجح في إنبات الزهر على الأجراف”..

أخذت كل واحدة منهن تقارنه بزوجها ، كان ذلك فرصة ثمينة للشكوى والقول أن أزواجهن من أكبر المساكين..

دخلت النسوة في متاهات الخيال.

قالت أكبرهن:” للميّت وجه أحد يمكن أن يسمّى إستبان”. كان هذا صحيحًا..كفي للأخريات أن ينظرن إليه لفهم أنه لا يمكن أن يحمل اسمًا آخر ، أمّا الأكثر عنادًا والأكثر شبابا فقد واصلت أوهامها بأن غريقًا ممدّدًا بجانب الأزهار وذا حذاء لامع لايمكن إلا أن يحمل اسمًا رومنطقيًا مثل “لوتارو”.

في الواقع ما قالته أكبرهن كان صحيحًا فلقد كان شكل الميت بلباسه مزريًا حيث كان السروال غير جيد التفصيل فظهر قصيرًا و ضيقًا ، حيث لم تحسن النسوة القياس وكانت الأزرار قد تقطعت وكأن قلب الميت قد عاد للخفقان بقوة..

بعد منتصف الليل هدأت الريحُ ، وسكت البحرُ ، وساد الصمتُ كل شيء . أتفقت النسوة عندها أن الغريق قد يحمل بالفعل اسم إستبان ، ولم تسُدْ الحسرة أية واحدة منهن: اللاتي ألبسن الميّتَ واللاتي سرحن شعره واللاتي قطعن أظافره وغسلن لحيته. لم تشعر واحدة منهن بالندم عندما تركن الجثة ممدّدة على الأرض ، وعندما ذهبت كل واحدة إلى بيتها فكرن كم كان الغريق مسكينًا وكم ظلت مشكلات كبر حجمه تطارده حتى بعد الموت ، لاشك أنه كان ينحني في كل مرة يدخل فيها عبر الأبواب .. لاشك أنه كان يبقي واقفا عند كل زيارة ، هكذا كالغبي، قبل أن تجد ربة البيت له كرسيا يتحمله…ولاشك أن ربةَ البيتِ كانت تتضرع للربّ في كل مرة ألا يتهشم الكرسي. وكان في كل مرة يرد عليها إستبان في ابتسامةٍ تعكس شعوره بالرضا لبقائه واقفا ..لاشك أنه ملّ من تكرر مثل هذه الأحداث ، ولاشك أيضا أن الناس كانوا يقولون له “ابق وأشرب القهوة معنا” ثم بعد أن يذهب معتذرا يتهامسون: “حمدا لله لقد ذهب هذا الأبله”.

هذا ما فكرت فيه النسوة فيما بعد عطفًا على الغريق..

في الفجر، غطت النسوة وجه الميّت خوفًا عليه من أشعة الشمسِ عندما رأين الضعف على وجهه. لقد رأين الغريق ضعيفًا مثل أزواجهن فسقطت أدمع من أعينهن رأفة ورحمة ، وشرعت أصغرهن في النواح فزاد الإحساس بأن الغريق يشبه إستبان أكثر فأكثر..

وزاد البكاء حتى أصبح الغريق أكبر المساكين على وجه الأرض..

عندما عاد الرجال بعد أن تأكدوا من أن الغريق ليس من القرى المجاورة امتزجت السعادة بالدموع على وجوه النسوة.

قالت النسوة: “الحمد لله ، ليس الميت من القرى المجاورة إذا فهو لنا!”..

أعتقد الرجال أن ذلك مجرد رياء من طرف النسوة ، لقد أنهكهم التعب وكان كل همّهم هو التخلص من هذا الدخيل قبل أن تقسو الشمس وقبل أن تشعل الريح نارها. أعدّ الرجال نقالة من بقايا شراع وبعض الأعشاب التي كانوا قد ثبّتوها بألياف البحر لتتحمّل ثقل الغريق حتى الجرف وأرادوا أن يلفّوا حول رِجلي الجثّة مرساة لتنزل دون عائق إلى الأعماق حيث الأسماك العمياء وحيث يموت الغواصون بالنشوة ، لفوا المرساة حتى لا تتمكن التيارات الضالة من العودة به إلى سطح البحر مثلما حدث مع بعض الموتى الآخرين.

ولكن كلّما تعجّل الرجال فيما يبغون كلّما وجدت النسوة وسيلة لضياع الوقت حيث تكاثر الزحام حول الجثة ؛ بعض من النسوة يحاول أن يلبس الميّت “الكتفيّة” حول كتفه اليمين لجلب الحظ حاول بعضٌ آخر أن يضع بوصلة حول رسغه الأيسر، وبعد صراع لغويّ وجسديّ رهيب بين النسوة شرع الرجال ينهرون ويصرخون :” مالهذه الوشايات والفوضى، ماذا تعلقن؟ ألا تعلمن أن أسماك القرش تنتظر الجثّة بفارغ الصبر؟ ما هذه الفوضى، أليس هذا إلا جثّة؟”..

بعدها رفعت امرأة الغطاء عن وجه الميّت فانقطعت أنفاس الرجال دهشة: “إنه إستبان!” لا داعي لتكرار ذلك لقد تعرفوا عليه. من يكون غيره، هل يظن أحد أن الغريق يمكن أن يكون السير والتر روليك على سبيل المثال؟ لو كان ذلك ممكنا فلاشك أنهم سيتخيلون لكنته الأمريكية وسيتخيلون ببغاء فوق كتفه وبندقية قديمة بين يديه يطلق بها النار على أكلة البشر..

لكن الجثة التي أمامهم غير ذلك، إنها من نوع فريد!

إنه إستبان يمتد أمامهم مثل سمكةِ السردين حافي القدمين مرتديًا سروال طفلٍ رضيع ، ثم هذه الأظافر التي لا تُقطع إلا بسكين. بدا الخجل على وجه الغريق ، ما ذنبه المسكين إذا كان طويلاً وثقيلاً وعلى هذا القدر من الجمال؟ لاشك أنه اختار مكانًا آخر للغرق لو عرف ما كان في انتظاره. قال أحد الرجال: “لو كنت محله لربطت عنقي بمرساة قبل أن اقفز من الجرف.. لا شك أنني سأكون قد خلصتكم من كل هذه المتاعب ومن جثتي المزعجة هذه.”

أعد سكان القرية أكبر جنازة يمكن تخيلها لغريقٍ دون هوية. رجعت بعض النسوة اللاتي كن قد ذهبن لإحضار الزهور من القرى المجاورة برفقة أخريات للتأكد من صحة ما سمعن.

عندما تأكدت نساء القرى المجاورة من شكل الغريق ذهبن لإحضار زهور أخرى ورفيقات أخريات حتى ازدحم المكان بالزهور وبالنساء..

في اللحظات الأخيرة تألّم سكانُ القرية من إرسال الغريق إلي البحر مثل اليتيم فاختاروا له أمًا وأبًا من بين خيرتهم وسرعان ما أعلن آخرون أنهم أخوته وآخرون أنهم أعمامه حتى تحول كل سكّان القرية إلى أقارب، وبينما كان الناس يتنافسون في نقل الجثمان فوق أكتافهم عبر المنحدر العسير المؤدّي إلى الجرف لاحظ سكان القرية ضيق شوارعهم وجفاف أرضهم ودناءة أفكارهم مقارنة بجمالِ هذا الغريق.

ألقى الرجال بالجثة عبر الجرف دون مرساة لكي تعود إليهم كيفما تشاء ومسكوا أنفاسهم في تلك اللحظة التي نزل فيها الميت إلى الأعماق ، أحسوا أنهم فقدوا أحد سكّان قريتهم وعرفوا، منذ تلك اللحظة، أن ثمة أشياء كثيرة لابد أن تتغير في قريتهم..

عرفوا أن بيوتهم تحتاج إلى أبواب عالية وأسقف أكثر صلابة ليتمكن شبح إستبان من التجول في القرية ومن دخول بيوتها دون أن تضرب جبهته أعمدة السقف ودون أن يوشوش أحد قائلاً لقد مات الأبله..

منذ ذلك اليوم قرر سكّان القرية دهن بيوتهم بألوان زاهية احترامًا لذكرى إستبان.. سوف ينهكون ظهورهم في حفر الآبار في الصخور وفي زرع الأزهار عبر الأجراف لكي يستيقظ بحارةُ السفنِ المارةِ في فجرِ السنواتِ القادمةِ علي رائحةِ الحدائق ولكي يضطر القبطان للنزول من أعلى السفينةِ حاملاً اسطرلابه ونجمتَه القطبية و يقول مشيرًا إلي الجبلِ الذي ينشر زهورَه الورديةَ نحو الأفق وفي كلّ لغاتِ العالم:

“أنظروا إلى هناك حيث هدوء الريح ِ وحيث ضوء الشمس.

هناك هي قرية إستبان!”.

-----------------------------------------------

ترجمة: د. محمد قصيبات

اضف هذا المقال على موقعك | طباعة | ارسال لصديق

تعليقات (12)

1. the meaning

كتبه wafaaهذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته , في 29-06-2007 14:51

salaam .i realy want to thank you for this beautiful site .Concerning the story of garcia i could'nt understand the aim behind this story ,in other words what does he want to say .please explain to me. :zzz

ملاحظة حول هذا التعليق

2. -

كتبه منال, في 04-07-2007 23:45

:roll

لن تكون الا مجرد قصة.

ملاحظة حول هذا التعليق

3. بلاهة قوم

كتبه رحيل, في 08-07-2007 01:17

هذه القصة توحي على ان الانسان محب للشقاءالابدي فاستبان ليس سوى رمز للتطورالذي رفضه الانسان والذي سيعيش على ذكرى رمز كان سيخرجه من كينونته الى الافق والى العيش في حياةافضل. :)

ملاحظة حول هذا التعليق

4. رائع هدا الرجل

كتبه عمر, في 15-07-2007 03:02

فاستبان وهو ميت غير عقول اهل القرية مادا لو كان حيا ؟ , غابرييل غارسيا ماركيز روائي خطير , شكرا على القصة

ملاحظة حول هذا التعليق

5. كتبه rohiteهذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته , في 16-07-2007 14:49

قصة جميلة حقا تحمل معان عدة تفهم حسب قدرة القارئ على الاستيعاب و من

الجميل استعمال الاسلوب الادبي لايصال الفكرة :) :p

ملاحظة حول هذا التعليق

6. good writer

كتبه ikramهذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته , في 17-08-2007 16:53

really nice and deep story that symbolises challenge and the optemistic view of life

ملاحظة حول هذا التعليق

7. كتبه جلال, في 23-08-2007 20:59

اظن ان سبب تاثر النساء هو رؤية شخص مختلف جمالا و هيكلا و هذا التاثر فتح خيالهن على ايجابياته انه كات سيكون قوي يحسن العيش احسن من رجالهن.دهشة تشبه دهشة و تأثر النسوة في سورة يوسف.

ملاحظة حول هذا التعليق

8. قضه أكثر من رائعه

كتبه نبض الغروب, في 18-09-2007 23:13

:cry :cry بصراحه تحزن وإن كانت من خيال الكاتب لكن رائعه جداً وطريقة الطرح أروع

ملاحظة حول هذا التعليق

9. جميلة رغم فظاعة وصف الميت

كتبه نديم الفقيه, في 20-09-2007 16:04

وصف مذهل يذكرني بمقطع مشهد سينيماءي تشبه عين الكاتب فيه حركة عدسة كاميرا. يكاد الخيال يثير حاسة الشم لدى القارء من فرط وصفها لبشاعة الموت. إستحق الكاتب جاءزة نوبل عن جدارة. :) :grin ;) 8) :p :roll :eek :upset :zzz :sigh :? :cry :( :x

ملاحظة حول هذا التعليق

10. تضاد في الوصف

كتبه القارئ الجديد, في 07-10-2007 10:29

نلاحظ أن الكاتب قد ذكر أن النساء وصفن الميت كان جميلا قويا تمنت نساء القرية ان يكون ازواجهم مثله لكنه في نفس الوقت قد كان يعيش كالغريب في بلده الذي لا يرغب أحد في إستضافته

ملاحظة حول هذا التعليق

انفاسظنّه الأطفال لمّا رأوه ، أول مرة ، أنه سفينة من سفن الأعداء. كان مثلَ رعنٍ أسود في البحرِ يقترب منهم شيئا فشيئا. لاحظ الصبيةُ أنه لا يحمل راية ولا صاريًا فظنوا حينئذٍ أنه حوتٌ كبير، ولكن حين وصل إلى ترابِ الشاطيء وحوّلوا عنه طحالبَ السرجسِ و أليافَ المدوز و الأسماكَ التّي كانت تغطيهِ تبيّن لهم أنّه غريق.

شرعَ الصبيةُ يلعبون بتلك الجثة يوارونها في الترابِ حينًا ويخرجونها حينًا حتّى إذا مرّ عليهم رجلٌ ورأى ما يفعلون نَهَرهم وسعى إلي القريةِ ينبه أهلها بما حدث.

أحسّ الرجالُ الذين حملوا الميّتَ إلى أول بيتٍ في القرية أنه أثقل من الموتى الآخرين ، أحسّوا كأنهم يحملون جثّةَ حصانٍ وقالوا في ذات أنفسهم :

“ربما نتج ذلك عن بقاء الغريق فترة طويلة تحت البحرِ فدخل الماءُ حتى نخاع عظامه.”

عندما طرح الرجالُ الجثةَ على الأرضِ وجدوا أنّها أطولُ من قامة كلّ الرجال ، كان رأس الميتِ ملتصقًا بجدار الغرفة فيما اقتربت قدماه من الجدارِ المقابلِ ، وتساءل أحد الرجال عمّا لو كان ذلك ناتجًا عن أن بعض الغرقى تطول قاماتُهم بعد الموت.

كان الميتُ يحمل رائحةَ البحر ، وكانت تغطيه طبقةٌ من الطين و الأسماك. لم يكن من الضرورة تنظيف الوجه ليعرف الرجال أن الغريق ليس من قريتِهم ، فقريتهم صغيرة لا تحوي سوى عشرين من البيوت الخشبية الصغيرة ، و كانت القرية نادرةَ التربة مما جعل النسوة يخشين أن تحمل الريحُ الأطفال ومنع ذلك الرجالَ من زرع ِ الأزهار ، أمّا الموتى فكانوا نادرين لم يجد لهم الأحياءُ مكانًا لدفنهم فكانوا يلقون بهم من أعلى الجرف..

كان بحرُهم لطيفًا ، هادئًا و كريمًا يأكلون منه. لم يكن رجالُ القرية بكثيرين حيث كانت القوارب السبعةُ التي في حوزتهم تكفي لحملهم جميعًا ، لذلك كفى أن ينظروا إلى أنفسهم ليعلموا أنه لا ينقص منهم أحد..

في مساءِ ذلك اليوم لم يخرج الرجال للصيدِ في البحر. ذهبوا جميعًا يبحثون في القرى القريبة عن المفقودين فيما بقتِ النسوة في القريةِ للعناية بالغريق …أخذن يمسحن الوحلَ عن جسده بالألياف ويمسحن عن شعره الطحالب البحرية ويقشّرن ما لصق بجلده بالسكاكين..

لاحظت النسوة أن الطحالب التي كانت تغطي الجثة تنتمي إلي فصيلة تعيش في أعماقِ المحيطِ البعيدة ، كانت ملابسه ممزقة وكأنه كان يسبح في متاهةٍ من المرجان. ولاحظت النسوة أيضا أن الغريقَ كان قد قابل مَلَكي الموتِ في فخرٍ و اعتزاز فوجهه لا يحمل وحشةَ غرقى البحرِ ولا بؤس غرقى الأنهار. وعندما انتهت النسوة من تنظيف الميّت وإعداده انقطعت أنفاسهن ، فهن لم يرين من قبل رجلاً في مثل هذا الجمال و الهيبة..

لم تجد نساء القرية للجثة، بسبب الطولِ المفرطِ ، سريرًا ولا طاولة قادرة على حملها أثناء الليل. لم تدخل رِجْلا الميتِ في أكبرِ السراويل و لا جسدُه في أكبرِ القمصان ، ولم تجد النسوة للميّت حذاءً يغطي قدميه بعد أن جربوا أكبر الأحذية.

فقدت النسوة ألبابَهن أمام هذا الجسدِ الهائلِ فشرعن في تفصيل سروالا من قماشِ الأشرعة و كذلك قميصًا من “الأورغندي” الشفاف فذلك يليق بميّتٍ في مثل هذه الهيبة و الجمال..

جلست النسوة حول الغريق في شكلِ دائرةٍ بين أصابع كل واحدةٍ منهن إبرة وأخذت في خياطة الملابس ، كن ينظرن بإعجاب إلى الجثة بين الحين و الحين؛ بدا لهن أنه لم يسبق للريح ِ أن عصفت في مثل هذه الشدة من قبل ولا لبحر “الكاراييب” أن كان مضطربًا مثل ذلك المساء. قالت إحداهن ” أن لذلك علاقة بالميّت” ، وقالت أخرى ” لو عاش هذا الرجل في قريتنا لاشك أنه بنى أكبر البيوت وأكثرهن متانة ، لاشك أنه بنى بيتًا بأبواب واسعة وسقفٍ عالٍ وأرضيةٍ صلبة ولاشك أنه صنع لنفسه سريرًا من الحديد و الفولاذ ، لو كان صيادًا فلاشك أنه يكفيه أن ينادى الأسماك بأسمائها لتأتى إليه. ، لاشك أنه عمل بقوة لحفر بئرٍ ولأخرج من الصخور ماءً ولنجح في إنبات الزهر على الأجراف”..

أخذت كل واحدة منهن تقارنه بزوجها ، كان ذلك فرصة ثمينة للشكوى والقول أن أزواجهن من أكبر المساكين..

دخلت النسوة في متاهات الخيال.

قالت أكبرهن:” للميّت وجه أحد يمكن أن يسمّى إستبان”. كان هذا صحيحًا..كفي للأخريات أن ينظرن إليه لفهم أنه لا يمكن أن يحمل اسمًا آخر ، أمّا الأكثر عنادًا والأكثر شبابا فقد واصلت أوهامها بأن غريقًا ممدّدًا بجانب الأزهار وذا حذاء لامع لايمكن إلا أن يحمل اسمًا رومنطقيًا مثل “لوتارو”.

في الواقع ما قالته أكبرهن كان صحيحًا فلقد كان شكل الميت بلباسه مزريًا حيث كان السروال غير جيد التفصيل فظهر قصيرًا و ضيقًا ، حيث لم تحسن النسوة القياس وكانت الأزرار قد تقطعت وكأن قلب الميت قد عاد للخفقان بقوة..

بعد منتصف الليل هدأت الريحُ ، وسكت البحرُ ، وساد الصمتُ كل شيء . أتفقت النسوة عندها أن الغريق قد يحمل بالفعل اسم إستبان ، ولم تسُدْ الحسرة أية واحدة منهن: اللاتي ألبسن الميّتَ واللاتي سرحن شعره واللاتي قطعن أظافره وغسلن لحيته. لم تشعر واحدة منهن بالندم عندما تركن الجثة ممدّدة على الأرض ، وعندما ذهبت كل واحدة إلى بيتها فكرن كم كان الغريق مسكينًا وكم ظلت مشكلات كبر حجمه تطارده حتى بعد الموت ، لاشك أنه كان ينحني في كل مرة يدخل فيها عبر الأبواب .. لاشك أنه كان يبقي واقفا عند كل زيارة ، هكذا كالغبي، قبل أن تجد ربة البيت له كرسيا يتحمله…ولاشك أن ربةَ البيتِ كانت تتضرع للربّ في كل مرة ألا يتهشم الكرسي. وكان في كل مرة يرد عليها إستبان في ابتسامةٍ تعكس شعوره بالرضا لبقائه واقفا ..لاشك أنه ملّ من تكرر مثل هذه الأحداث ، ولاشك أيضا أن الناس كانوا يقولون له “ابق وأشرب القهوة معنا” ثم بعد أن يذهب معتذرا يتهامسون: “حمدا لله لقد ذهب هذا الأبله”.

هذا ما فكرت فيه النسوة فيما بعد عطفًا على الغريق..

في الفجر، غطت النسوة وجه الميّت خوفًا عليه من أشعة الشمسِ عندما رأين الضعف على وجهه. لقد رأين الغريق ضعيفًا مثل أزواجهن فسقطت أدمع من أعينهن رأفة ورحمة ، وشرعت أصغرهن في النواح فزاد الإحساس بأن الغريق يشبه إستبان أكثر فأكثر..

وزاد البكاء حتى أصبح الغريق أكبر المساكين على وجه الأرض..

عندما عاد الرجال بعد أن تأكدوا من أن الغريق ليس من القرى المجاورة امتزجت السعادة بالدموع على وجوه النسوة.

قالت النسوة: “الحمد لله ، ليس الميت من القرى المجاورة إذا فهو لنا!”..

أعتقد الرجال أن ذلك مجرد رياء من طرف النسوة ، لقد أنهكهم التعب وكان كل همّهم هو التخلص من هذا الدخيل قبل أن تقسو الشمس وقبل أن تشعل الريح نارها. أعدّ الرجال نقالة من بقايا شراع وبعض الأعشاب التي كانوا قد ثبّتوها بألياف البحر لتتحمّل ثقل الغريق حتى الجرف وأرادوا أن يلفّوا حول رِجلي الجثّة مرساة لتنزل دون عائق إلى الأعماق حيث الأسماك العمياء وحيث يموت الغواصون بالنشوة ، لفوا المرساة حتى لا تتمكن التيارات الضالة من العودة به إلى سطح البحر مثلما حدث مع بعض الموتى الآخرين.

ولكن كلّما تعجّل الرجال فيما يبغون كلّما وجدت النسوة وسيلة لضياع الوقت حيث تكاثر الزحام حول الجثة ؛ بعض من النسوة يحاول أن يلبس الميّت “الكتفيّة” حول كتفه اليمين لجلب الحظ حاول بعضٌ آخر أن يضع بوصلة حول رسغه الأيسر، وبعد صراع لغويّ وجسديّ رهيب بين النسوة شرع الرجال ينهرون ويصرخون :” مالهذه الوشايات والفوضى، ماذا تعلقن؟ ألا تعلمن أن أسماك القرش تنتظر الجثّة بفارغ الصبر؟ ما هذه الفوضى، أليس هذا إلا جثّة؟”..

بعدها رفعت امرأة الغطاء عن وجه الميّت فانقطعت أنفاس الرجال دهشة: “إنه إستبان!” لا داعي لتكرار ذلك لقد تعرفوا عليه. من يكون غيره، هل يظن أحد أن الغريق يمكن أن يكون السير والتر روليك على سبيل المثال؟ لو كان ذلك ممكنا فلاشك أنهم سيتخيلون لكنته الأمريكية وسيتخيلون ببغاء فوق كتفه وبندقية قديمة بين يديه يطلق بها النار على أكلة البشر..

لكن الجثة التي أمامهم غير ذلك، إنها من نوع فريد!

إنه إستبان يمتد أمامهم مثل سمكةِ السردين حافي القدمين مرتديًا سروال طفلٍ رضيع ، ثم هذه الأظافر التي لا تُقطع إلا بسكين. بدا الخجل على وجه الغريق ، ما ذنبه المسكين إذا كان طويلاً وثقيلاً وعلى هذا القدر من الجمال؟ لاشك أنه اختار مكانًا آخر للغرق لو عرف ما كان في انتظاره. قال أحد الرجال: “لو كنت محله لربطت عنقي بمرساة قبل أن اقفز من الجرف.. لا شك أنني سأكون قد خلصتكم من كل هذه المتاعب ومن جثتي المزعجة هذه.”

أعد سكان القرية أكبر جنازة يمكن تخيلها لغريقٍ دون هوية. رجعت بعض النسوة اللاتي كن قد ذهبن لإحضار الزهور من القرى المجاورة برفقة أخريات للتأكد من صحة ما سمعن.

عندما تأكدت نساء القرى المجاورة من شكل الغريق ذهبن لإحضار زهور أخرى ورفيقات أخريات حتى ازدحم المكان بالزهور وبالنساء..

في اللحظات الأخيرة تألّم سكانُ القرية من إرسال الغريق إلي البحر مثل اليتيم فاختاروا له أمًا وأبًا من بين خيرتهم وسرعان ما أعلن آخرون أنهم أخوته وآخرون أنهم أعمامه حتى تحول كل سكّان القرية إلى أقارب، وبينما كان الناس يتنافسون في نقل الجثمان فوق أكتافهم عبر المنحدر العسير المؤدّي إلى الجرف لاحظ سكان القرية ضيق شوارعهم وجفاف أرضهم ودناءة أفكارهم مقارنة بجمالِ هذا الغريق.

ألقى الرجال بالجثة عبر الجرف دون مرساة لكي تعود إليهم كيفما تشاء ومسكوا أنفاسهم في تلك اللحظة التي نزل فيها الميت إلى الأعماق ، أحسوا أنهم فقدوا أحد سكّان قريتهم وعرفوا، منذ تلك اللحظة، أن ثمة أشياء كثيرة لابد أن تتغير في قريتهم..

عرفوا أن بيوتهم تحتاج إلى أبواب عالية وأسقف أكثر صلابة ليتمكن شبح إستبان من التجول في القرية ومن دخول بيوتها دون أن تضرب جبهته أعمدة السقف ودون أن يوشوش أحد قائلاً لقد مات الأبله..

منذ ذلك اليوم قرر سكّان القرية دهن بيوتهم بألوان زاهية احترامًا لذكرى إستبان.. سوف ينهكون ظهورهم في حفر الآبار في الصخور وفي زرع الأزهار عبر الأجراف لكي يستيقظ بحارةُ السفنِ المارةِ في فجرِ السنواتِ القادمةِ علي رائحةِ الحدائق ولكي يضطر القبطان للنزول من أعلى السفينةِ حاملاً اسطرلابه ونجمتَه القطبية و يقول مشيرًا إلي الجبلِ الذي ينشر زهورَه الورديةَ نحو الأفق وفي كلّ لغاتِ العالم:

“أنظروا إلى هناك حيث هدوء الريح ِ وحيث ضوء الشمس.

هناك هي قرية إستبان!”.

-----------------------------------------------

ترجمة: د. محمد قصيبات

ليست هناك تعليقات:

ادب المقاومة و المقاومين

صورتي
مراكش, في كل نقطة حمراء, Morocco

موجة حر

موجة حر
تستمر حملة التضامن مع بارا ابراهيم المعتقل : كاتب المجموعة المحلية لاطاك افني