حملت القلم ، لا كتب ما يخالج نفسي بعد تجربة قصيرة من العمر ، لا ادعي فيها التميز و الانفراد في ما حدث وفيما يحدث ، لكنني أتشبث في أحقيتي لنفسي لا لغيري في سر الكتابة ، وفي سر احترام ما امتلكته يدي وعقلي وقلبي طيلة سنوات الشفاء ، كتاباتي هي جزء لا يتجزأ من جسد و ترهل روح ، شكل من أشكال رسم المرايا لمطابقة المعنى بالحروف و لعودة الذات إلى الموضوع أو لإضافة الهامش إلى المركز و الصورة إلى الصوت ، الزمن إلى المكان.
هي الكتابة ادن ، جسر التواصل المتين الذي يألف الحبل على رقاب الرافضين و يثير زوبعة من الهذيان أحيانا و الحكمة أحيانا أخرى ، الكتابة هي تاج على رؤؤس من لا يملك قوت يومه ، ففي الكتابة يبنى عالم الرافضين وفيها أيضا تظهر ملامح التصلب و التوافق ، لكنها من حيث المبدأ قطعة قماش بيضاء ترفض التلطخ بالتكلف و النفاق ، فالكتابة جسر من الصدق في حبالها يتمسك الغارقون في رسم ملامح الغد بزمن الانتصار .
ولأن الكتابة نضال ضد لغة الجمود ، فإن صمت المناضلين أمام رهبة القلم تقتضي نصا آخر لمكاشفة الذات ، بدل معاقبتها معاقبة الجلاد بالرصاص أو قنابل الاستهزاء المسيلة للدموع .ولأنني من جيل تربى على يد ثوار لا يهابون الموت بل يصاحبونها ورفاق فطنوا أمراض اليسار فتلطخ بعضهم ببعض أمراضهم فاثر إلا تبلغ العدوى جسد الجيل الجديد، وجدتهم يتأففون ويتناولون الخطأ بالتراجع لا بالأنفة و التكبر ، فكل كلمة صدق يرونها غير راضين ، متأففين من صدق الإفشاء عن سر الذات في محاكاة الواقع ، فيراها البعض ضعفا وآخرون رومانسيات ويراها آخرون عورة يجب حجبها عن الاندثار ..وآخرون لا يرون لها طعما لونا أو زركشا, إلا ادا غنى ضحايا الارتباطات الإنسانية طالبين صم الآذان من كلماتهم النتئة الثورية اللفظ و الجبانة الفعل ، في زمن مقيت يخلط فيه النضال بالمقامرة و بالآم الآخرين الصادقين ..
خداع ....
حملت القلم لأنك وأنت تترنح سيرا في مسالك الحياة الوعرة ، تقابل وجوها ووجوها ، لا تملك الخيار في التعفف عن مقابلتهم أو تجنبهم ، يتاح لك خيار بناء محيط العلاقات لكنك لا تصادف قدرك بيدك ، فلا يحق لك ولا لغيرك أن ترسم لوحة عن الوجوه و الانطباعات و الملامح ، بدليل أنك لا تختار الوجوه التي ترتضيها ظلا وصفوة لاغترابك ، كما أنك يوم الولادة محروم من حق الاختيار في أي بيئة وفي أي زمن أو محيط يحق لك فيه الحياة ...لكن الطبيعة تدخر لك في شكل أنانيتها بعضا من ديمقراطيتها اللئيمة: أن تكون مناضلا في حق الوجود ،كاتبا يدون تجارب ثوار مروا من هنا ..لك ادن حق الاختيار في شكل تقبل الواقع لكن ليس لك الحق في انتقاء صدفه ووقائعه..
حملت القلم لأنك معني معي بتأمل كل يسار جديد أو قديم بعيدا عن لغة التعقيدات الحسابية و حسن تدبير التحليل و أحقية العلم عن الأدب بعيدا عن تفاهة الأوصاف بين نعث المثقف و الغير المثقف .. أنت هنا فقط لتقاوم . وتعلم المقاومة في سنوات البدء لا ترتضي منك أن تكون كامل الزعامة أو يقينيا أو طهرانيا ، لأنك إن قبلت بهدا المنطق قبلت أن يسلب منك حقك في الموقف و حق اكتمال الذات ونضجها واستقلاليتها في المواقف وجعلت من نفسك تبعيا ببغائيا .
قصة امرأة ومقاومة ....
انتهى مآل اليسار بالمغرب إلى تدجين الكتابة و امتطاء صهوة الجسد عوض الروح ، غاص في هزائمه حتى أضحت الثورة حكرا على مجيدي الكلمات ، هكذا تلعم ثوارنا الثورة في جسد النساء و امتهنوها في كليات الزعامات و المزايدات ، الغطرسة حد النخاع وتوهم آخرون أن الثورة تبدأ في قمع مخالفيهم وازدرائهم بعدم المعرفة و آخرون بعراقة الفهم ، مستنقع سموا أنفسهم بالثوار وتلطخت معهم دماء الشهداء ، لم نكن ادن إزاء قيادة فعلية بل كنا إزاء عبارات لطالما أحببت ترديدها " قل للرفاق إن العدو بيننا " فلقد استشهد قائل هده العبارات قبل موته وإعدام وجوده الطبيعي .
أتأمل وجهها أجدها ساكنة غائرة ، مبتسمة حائرة ، قوتها الفولاذية التي بنت حطامها على صفحة الثورة هي اليوم ملامح جسد وروح تحاول خلق شروط استمرارية الحياة بعدما أنهكته تطلعات اللاتي ، امرأة احبث رجلا فقط لأنه ثوريا ، ولان الثورة تعشق أسمائها فقد جلبت لفتاتها مستقبل الغد الذي سينير درب الثائرين ، ولأنها أيضا امرأة تحب الحب وتسميه انتصارا وليس التزاما ، آمنت وأمنت الرجل ، فاختلط الحب بالأمل و الجسد بالثورة ، وجعلت لزوجها صورة في الجسد ووهبته الحياة حينما جفت أغراس الثورة، وتساقطت أوراقها فبانت عورتها ثمرة يلفظها العدميون ، فرمت وسط الجسد الهامد علقة ثم مضغة فأحيته ، ولما ارتد الحلم وانهارت كلمات الثورة وسط القمع تراجع خلفها و طلب الاحتماء بدفئها " خبئيني أتى القمر ...خبئيني ليث مرآتنا قمر " آثر محاكمة من خلقت فيه روحا ، حاكم الثورة و الجسد و في الحانات شيد أول قصور الثورة و المحاكمات ، لم يتردد في توجيه تهم الكيد و الاندحار لرفيقته التي عملت في الليل الطويل ونامت في محطات الطرقات و أهدته من سكونها مملكة تحمي الثوار ومن المطاردات البوليسية، اعتقلتها قوات القمع في أوائل الثمانينات ، طلبوا منها الإفصاح عن هويتها فأجابت :
- أنا قاعدية
- أين تعلمت الثورة ؟
- تعلمتها في كنف حبيبي
- أين يختبأ
- يختبأ في قلبي ، فإن أردتم إرغامي عن الإفصاح عن مخبئه فانزعوا عني نبضاتي ..
امرأة آمنت بالثورة من أجل أن تراه ثوريا ، تعلم الرفض و التجوال في أجساد النساء ، فلما تعلم سر الكلام ، قال أنا ثائر فانا من بين القلائل الخمس المطلوب رؤوسهم في هدا المغرب الهزيل ، تعبد بالأنا حتى صارات الأنات اناه و اناه الأنا .
انتهت أحلام الثورة بإهدار الفرص وبأمراض اليسار الطفيلي ، التقط عبير الحرية في جلسات الإنصاف و المصالحة قبل الإعلان عنها بسنوات ، تغذى الحكمة بالانتهازية ، حقق لنفسه شروطا جديدة للعيش ، فاللعبة تغيرت و اختار لنفسه عشيقة ثم زوجة ، وجنى على نفسه كما جنيت على نفسي ،" فهدا ما جناه علي أبي وما جنيت على احد " على جسد جديد خرج إلى الحياة ..منتهى الأنانية في اندثار القيم و صعود نجم الثورة التي تحصد رفاقها ، الملامح التي كساها جسد المرأة المتوهج بالعطاء ومشاق الحياة التي أتلفت جمال الشكل و الروح ..
هناك تعليق واحد:
تحية عالية لك ياسر على هذه المدونة و أتمنى من الرفاق إغناؤها بتعليقاتهم و كتاباتهم.
حمزة
إرسال تعليق