ادب المقاومة و المقاومين كتابات إلى كل مناضل ..إلى نفسي إحياء لمقاومتها صبرا على الآفات إلى كل صادق في هدا البلد الذي أظناه الغباء وسلطة الأفراد إلى روح الجماعة ..إلى امرأة ..إلى سمش ..إلى روح الجماعة إلى عنادي الذي علمني الرفض ودفع الضرائب إلى القلم الذي أنجب مني الكلمات وأنجبت منه المعاناة

الأحد، 27 يوليو 2008

ملف غابرييل حوار مع القائد ماركوس



حوار مع القائد الادنى ماركوس

جارسيا مركيز وروبرتو بومبو

ترجمة خالد القيشاوي

حوار أجراه " جارسيا ماركيز" , و " روبرتو بومبو " عن لحظة دخلول قوات الزباتيستا للتحرر الوطني إلى العاصمة " مكسيكو سيتي" ،أكبر إنتصار حققته الزاباتيستا,أهم الحركات الثورية للسكان الأصليين في أمريكا اللاتينية وأكثرها شهرة على المستوى العالمي.. ويتحدث فيه (القائد الأدنى)* " ماركوس " عن الحلم الاستراتيجي للزاباتيستا والمصادر الأدبية والفكرية للنضال الثوري . والتناقض الذي تحياه الزاباتيستا كحركة تحمل السلاح، وفي الوقت نفسه تري أن الجيوش_حتى الجيوش الثورية- لاتبنى إلا نظما إستبدادية

بعد سبع سنوات من إعلان جيش الزاباتيستا للتحرر الوطني أنه سيدخل مكسيكوسيتي يوما ما منتصرا , أنتم الآن في العاصمة وتسيطرون تماما على " زوكالو" . ماذا كان إحساسك وأنت تعتلي المنصة وترى هذا المشهد ؟

من التقاليد الأصيلة للزاباتيستا رفض الأبراج العالية , وعليه فإن أسوأ مكان تشاهد فيه مظاهرة في " زوكالو" هو المنصة , كانت الشمس حارقة , والدخان كثيف , والصداع يصيبنا جميعا , والقلق يسيطر علينا ونحن نحصي من يصابوا بالإغماء أمامنا . قلت لرفيقي القائد " تاتشو" , سوف نعتاد الدخان والشمس مع الوقت , بدأنا ندعو الناس إلى عدم مغادرة الميدان . على الرغم من أننا لم نكن قادرين على مشاهدة كل الطرق المؤدية إليه . كنا نحتفظ بمسافة تفصلنا عن الزحام , وذلك لأسباب أمنية . كما كنا أيضا في حالة بالغة من الـتأثر والاستثارة , ولم نكن نعرف ما يحدث في " زوكالو" حتى قرأنا التقارير الصحفية وشاهدنا الصور في اليوم التالي . ولكن كنا نرى , كما كان يعتقد آخرون ,أن الاجتماع بلغ ذروته , وأن كلماتنا في ذلك اليوم كانت موفقة . وأن رسالتنا أصابت الحقيقة , أننا اربكنا أولئك الذين كانوا يتوقعون أننا سنحاصر القصر أو سندعو للعصيان العام . كما اربكنا أيضا من كانوا يعتقدون أننا لسنا إلا مجرد خياليين ومتحمسين . أعتقد أننا ضربنا كل هذه التوقعات . وبشكل أو بأخر , استطاعت قوات زاباتيستا للتحرر الوطني أن تكون مسموعة في زوكالو في 11 مارس 2001 بشكل غير مسبوق , وأن تؤكد أن الهزيمة النهائية للعنصرية لابد أن تترجم في سياسة الدولة , وفي السياسة التعليمية , وفي الوعي الجماعي لكل المجتمع المكسيكي . وعلى حد قول جنودنا , تم كسب المعركة , لكن لازالت هناك مناوشات محدودة . الخلاصة , أنني مؤمن بأن الاجتماع الذي عقد في " زوكالا" . أوضح أن قرارانا بتجنب استخدام السلاح كان قرارا صحيحا , لذلك , لم تكن أسلحتنا هي وسيلتنا في الحوار مع المجتمع , وأن الرهان على التحرك السلمي كان رهانا عقلانيا ومثمرا . لا زالت الدولة المكسيكية عاجزة عن فهمه , خاصة الحكومة المكسيكية .

استخدمت تعبير " كما يقول جنودنا " . بالنسبة لأي كولومبي , اعتاد الحديث بأسلوب المغاوير المسلحين , فإن حديثك لا يحمل ألفاظا عسكرية واضحة . كيف تعسكرت الحركة التي تقودها , وكيف يمكنك وصف الحرب التي تخوضها ؟

نحن تشكلنا كقوة مسلحة , حركة الزاباتيستا للتحرر الوطني . حركة ذات بنية عسكرية, وأنا قائد عسكري لجيش التحرر . لكن جيشنا مختلف تماما عن غيره من القوات المسلحة , لأن هدفنا هو أن نكف عن حمل السلاح . أي جندي بطبيعته شخص يتصرف بشكل مناف للعقل , فهو يلجأ للسلاح لكي يقنع الآخرين !! لذلك فإن حركة الزاباتيستا تدرك أنها بلا مستقبل إذا كان مستقبلها هو حمل السلاح . إذا أبدت حركة الزاباتيستا نفسها في بنية عسكرية مسلحة , فإنها ستفشل لا محالة . ستفشل في أن تكون بديلا يقوم على أساس أفكار و مواقف محددة من العالم . فضلا عن ذلك , فإن أسوأ شئ يمكن أن يحدث لها. أن تأتي إلى السلطة وتنصب نفسها باعتبارها جيشا ثوريا . بالنسبة لنا , هذا فشل ذريع . إن ما يعتبر نجاحا لمنظمات سياسية – عسكرية نشأت في السيتينات و السبعينات مع حركات التحرر الوطني , لا نعتبره إلا فشلا وزيفا .

نحن نرى أن هذه الانتصارات تأكد فشلها في النهاية , أو هزيمتها , واختباءها خلف ادعاءات النجاح . إن ما يبقى بلا حل هو دور الناس , دور المجتمع المدني , في النزاع الذي لا ينتهى بين الطرفين المتنازعين من أجل السيطرة والهيمنة . فهناك قوة تقرر من برجها العالي مصالح المجتمع , وجماعة من الحالمين يقررون قيادة البلاد في الطريق الصحيح والإطاحة بالمجموعة الأخرى من السلطة , والإحلال محلها , أيضا ليقرروا ماهو في صالح المجتمع , بالنسبة لنا , فإن الصراع بين الطرفين الساعين من أجل الهيمنة , يكون فيه المنتصر هو الخير , والمهزوم هو الشر .. صراع لا يفضي إلى أي تغييرات أساسية لصالح المجتمع , تدرك حركة الزاباتيستا للتحرر الوطني ذلك تماما , ولذلك فإن صفتها العسكرية تتقلص , وأسلحتها مقيدة , لذلك فنحن لا نعتبر التحركات المسلحة أفضل من التحركات السلمية , بل ندرك ذلك بشكل واضح . أصبح وزن السلاح أقل من قبل , كما تصبح الجماعات المسلحة أقل أهمية حينما تدخل في حوار مع الشعب . إنك لا تستطيع إعادة بناء العالم ولا إعادة بناء المجتمع , ولا حتى إعادة بناء الدول القومية الآن , على أساس النزاع حول من سيفرض هيمنته على المجتمع .

يتكون العالم بشكل عام , والمكسيك بشكل خاص , من أنواع مختلفة من الناس , لا بد أن تقوم العلاقات فيما بينهم على أساس الاحترام والتسامح . وهي الأشياء التي لا وجود لها في خطاب المنظمات السياسية- العسكرية التي وجدت في الستينيات والسبعينيات . والواقع , وفي الغالب الأعم , أنها موجودة , وتعاني منها حركات التحرر الوطني المسلحة في هذه الأيام , لكنها تؤدي لكوارث فادحة .

تبدو أيضا مختلفا عن اليسار التقليدي , في القطاعات الاجتماعية التي تمثلها . . هل هذا صحيح ؟

بشكل عام , هناك قضية فلاحية كبيرة في داخل حركة اليسار الثوري في أمريكا اللاتينية . تتعلق بالسكان الأصليين , الذين جئنا من بين صفوفهم , وأيضا بشأن الأقليات الأخرى . و حتى ولو رفعنا قبعاتنا احتراما لغيرنا من الاقليات فلن نعامل معاملة أقليات أخرى مثل الشواذ . فالشواذ لم يستبعدوا من الخطاب السياسي لليسار الأمريكي اللاتيني في الستينات والسبعينات – وحتى اليوم – لكن الإطار النظري للماركسية اللينينية آنذاك كان لا يحترمهم, وإن كان يعتبرهم جزء مهملا من الجبهة . فالمثليين , على سبيل المثال , يشتبه في أنهم قد يكونوا خونة محتملين , وعناصر ضارة سواء للحركة الاشتراكية أو للدولة . لكن السكان الأصليون ينظر لهم باعتبارهم قطاع متخلف يعيق قوى الإنتاج !!.. لذلك , كان المطلوب القضاء على هذه العناصر , وسجن بعضهم , أو إعادة تعليم بعضهم الأخر , واستيعاب الآخرين في عملية الإنتاج , وتحويلهم إلى عمال مهرة – بروليتاريا , ووضعهم في هذا الإطار .

عادة , يتحدث الجيش الثوري باسم الأغلبية . ألا يبدو غريبا أن تتحدث باسم الأقلية’ بينما تستطيع التحدث باسم الفقراء أو المستغلين في المكسيك برمتها . لما تفعل ذلك ؟

كل الحركات الطليعية تعتبر نفسها ممثلة للأغلبية . نحن لا نعتقد أن هذه الفكرة زائفة فحسب , بل نعتبرها في أفضل الأحوال ليست أكثر من مجرد أمنية لا أساس لها في الواقع. فقد أصبح لكل القوى الاجتماعية الراهنة اليقين بأن أولئك الذين يدعون تمثيلها أو قيادتها , هم أنفسهم يدركون عدم صحة ذلك . في هذا الإطار, ليس لحركة الزاباتيستا للتحرر الوطني أية ادعاءات بأنه حركة طليعية , ولا تعترف إلا بأوضاعها الواقعية . إن الاعتقاد بأننا يمكن أن نتحدث باسم الناس ونعبر عن مصالحهم هو استمناء سياسي . بل أن هذا الأمر لا يجلب الرضا مثله مثل الجماع الناقص الذي لا يجلب المتعة – على الأكثر , مثل الكتابات التي لا يقرأها سوى من كتبوها . نحن نسعى إلى أن نكون أمناء مع أنفسنا , وقد يقول البعض أن هذا التصرف سلوكا إنسانيا لائقا . أننا لا ندعي الفضيلة , ولكننا نقول بأمانة أننا لا نمثل سوى جماعات الزاباتيستا للسكان الأصليين في منطقة جنوب شرق المكسيك , وإن كان خطابنا يصل إلى قطاعات أوسع من أولئك الذين نمثلهم . هذا كل ما في الأمر . فلنا في كلماتنا التي ألقيناها خلال مسيرتنا إلى العاصمة , أننا لا نستطيع ولا يجب أن نسعى لقيادة الصراعات والنضالات التي نلاقيها خلال رحلتنا , ولا حتى رفع شعارات لهم . نحن لا نرى أن هؤلاء غير قادرين على التعبير عن أنفسهم , وعن المظالم الكثيرة التي يعانون منها , وعن شكاواهم , ومطالبهم . . . في تصورنا أن مسيرتنا كانت مثل حرث الأرض وتقليبها التي تسمح بكشف الكثير من المدفون فيها . كنا أمناء وقلنا للناس أننا لم نأت لنقود أحدا وفقا لما نتصوره . جئنا فقط لنحقق مطلب , لكن تحركنا هذا , يمكن آخرين من التحرك. وتلك قصة أخرى .

هناك كلام عن أنكم مضيتم من مدينة إلى أخرى على غير هدى إلى أن وجدتم أنفسكم في مكسيكوسيتي , فهل كنتم تستهدفون العاصمة منذ البداية ’ أم أن الأمر تحدد خلال المسيرة؟

هناك حكاية رسمية وحكاية حقيقية . الحكاية الرسمية هي أننا كنا نحدد كل ما نفعله في كل خطوة . أما الحكاية الحقيقية هي أننا كنا نناقش معا هذه الأمر من حين لأخر على مدار السنوات السبع الماضية . جاءت اللحظة المناسبة عندما حقق الزاباتستيون أعضاء الحركة تطورات كثيرة . فإن ما نحن عليه الآن , ليس هو ما كنا فيه عام 1994 , أو في الأيام الأولى من عام 1994 حينما بدأنا القتال ؟ فنحن نعمل وفق مجموعة من الأحكام الأخلاقية, التي حددناها خلال السنوات السبع الأخيرة . ففي النهاية نحن لم نحرث الأرض على نحو ما كنا نأمل . لكن ما فعلته مسيرتنا كان كافيا لإظهار كل هذه المشاعر الملتهبة على السطح. في كل الميادبن , كنا نقول للناس : " نحن لم نأت لكي نقودكم , لم نأت لنقول لكم ما تفعلوه , ولكن جئنا لنستعين بكم " . إلى درجة أننا تسلمنا خلال المسيرة : قوائم بشكاوي ودعاوى قضائية ترجع إلى ما قبل الثورة المكسيكية , قدمت لنا على أمل أن يقوم شخص ما بحل المشاكل الواردة فيها . لو أننا حصدنا وقيمنا نتائج مسيرة الزاباتيستا , لاستمر جدلنا حتى اليوم . ولا يستطيع أحد أن يقيم لنا نتائجها . أن أشكال التنظيم , والمهام السياسية , قد تحتاج لبعض التغيرات وفقا لما هو ممكن . فعندما نقول للقيادات "لا " فإننا أيضا سيقال لنا "لا " .

أنت والزاباتيستا بلغتم ذروة التألق . وهناك مشروع قانون مقدم للكونجرس المكسيكي يتعلق بالسكان الأصليين وتقنين أوضاعهم , وبدأت المفاوضات التي كنت تدعو لها . فكيف ترى المشهد الآن ؟

نحن نعمل وفق زمنين وساعتين مختلفتين , يدور الصراع بين ساعة تعمل بالكروت المثقبة , وتلك ساعة " فوكس" , أما نحن فساعتنا رملية . الجدل يدور حول الخضوع لمبدأ العمل وفق ساعة المصنع أي ساعة "فوكس" وإلغاء ساعتنا الرملية . يجب أن يدور الجدل ليس وفقا لساعتهم ولا لساعتنا . كلانا يحتاج إلى فهم موقف الأخر , ولذلك نحن نحتاج لساعة أخرى نتفق عليها , أي نحتاج لاتفاق على إيقاع الحوار وعلى السلام النهائي . نحن لسنا طرفا في ساحة الصراع على السلطة , ولو دخلناه سنكون على أرضهم تماما , وسنكون غير فاعلين وغير مؤثرين على الإطلاق إذا دخلنا اللعبة السياسية , على الأقل في هذا النوع من السياسة . نحن لا نجيدها , ونتعثر فيها , ولا نريد الدخول فيها . أما خصومنا فيجيدونها , وهم لاعبون مهرة . على هذه الأرضية سيدور الجدال , سواء حدد السياسيون أجندته أو حددت وفقا لاحتياجاتنا . مرة أخرى , أعتقد أن لا نحن ولاهم يمكن أن يكون بيننا حوار . حينما خضنا حرب , كنا نتحدى الحكومة , لكننا الآن لكي نبني سلام فنحن لا نتحدى الحكومة وحدها , بل نتحدى الدولة المكسيكية برمتها .وهنا لا يمكن الجلوس على مائدة الحوار مع الحكومة . مع ذلك نحن ندعو لإقامة هذا الحوار , ونحن في حاجة له , ونتحدى الحكومة أن تكون مقتنعة به , ولن تجلس للحوار أو تتوقف عنه إلا إذا رأت فيه مكسبا لها . ولذلك فإنه حتى ولو بدا , فإنه سينتهي إلى الفشل .

من يجب أن يجلس على مائدة هذا الحوار ؟

الحكومة في جانب , ونحن في الجانب الأخر .

فعليا , ألم يوافق " فوكس " على الحوار , حينما أعلن رغبته في الحوار معك , وأنه سوف يستقبلك في القصر الرئاسي , أو في أي مكان تريده ؟

ما يقوله فوكس لا يعكس إلا رغبته في الحصول على جانب من كعكة وسائل الإعلام , التي أصبحت وسيلة لكسب الشعبية , وذلك أهم عنده من الدخول من حوار أو في مفاوضات.يبحث فوكس عن فرصة لجذب الإعلام , والحفاظ على كسب اهتمامه به وبتصريحاته . لكن عملية السلام لا يمكن أن تحدث من خلال الاستعراضات والمشاهدات الدعائية , ولكن بالجلوس بجدية على مائدة المباحثات وتكريس جهودك لحوار حقيقي. نحن مستعدون تماما لمباحثات مع " فوكس" , إذا تحمل المسئولية الشخصية للحوار , وتعهد بأن تفضي المفاوضات معنا إلى نهاية . لكننا نسأله : من سيدير البلاد خلال فترة مباحثاتك معنا , التي ستكون محادثات شاقة ؟ بالطبع , لست في حاجة لآن أوضح هذا لواحد من كولومبيا, فأنت تعرف من خبرتك أن عمليات الحوار والتفاوض في أي صراع مسلح تكون بالغة الدقة , ويستحيل على رئيس دولة أن يكرس لها كل وقته . فإن كان " فوكس" جادا , فليعين مسئولا لحكومته لإجراء حوار معنا . هذا أمر غير ملح وغير عاجل . فإن المصافحة من فوكس أو من ينوب عنه ليس من بين أحلامنا الراهنة .

قلت في جامعة " كامبوس" , أنك خلال هذه العملية الطويلة , سوف تتولاها مرتديا ملابسك كجندي في الحركة المسلحة . . .هل لازال الوقت مناسب الآن لتفعل ذلك ؟

استيقظت خصيصا من أجل هذا اللقاء , والآن حان وقت الذهاب إلى النوم ( ضحك). أجرينا مناقشات مع عديد من الجماعات , أود أن أذكر أن : عددا كبيرا من الجماعات في العالم – بصرف النظر عن مدي تأثيرها – تأثرت بكلامنا . نحن نجلس على أحد المائدتين على كراسي متحركة , أذكر أنني جلست على أحدها في شبابي , مع الكونجرس والأخرى مع مجتمعات مكسيكوسيتي . لكن ما يقلقنا أن الكونجرس يعاملنا وكأننا متقدمون بطلبات عليه أن ينظرها , ويطالبنا بالانتظار لأنه مشغول بموضوعات أخرى . إذا كان الأمر على هذا النحو , فإنه لن يسفر إلا عن أضرار كثيرة , لأن مجرد الاعتراف بحقوق السكان الأصليين لي يحل القضية الآن . هذا الأمر سيصيب كثير من الناس بالصدمة . إن الناس لن تقبل أن يقتصر دورها على المشاركة في يوم الانتخابات فقط . إلى جانب ذلك , فإن مثل هذه المفاوضات تحمل إشارة للجماعات السياسية- العسكرية الراديكالية الأخرى , التي تنمو تحت شعار يدعى أن أي تفاوض سياسي هو شكل من أشكال الاستسلام .

في أثناء كلامك , قلت " عندما كنت في شبابي" كم تبلغ من العمر ؟

عمري 518 . .. ( ضحك)

هل تستهدف في الحوار إيجاد آليات جديدة للمشاركة الشعبية في صناعة القرار , أم أنك تدعم القرارات الحكومية التي تعتبرها ضرورية وهامة للبلاد ؟

الحوار يعني ببساطة قواعد متفق عليها للجدل فيما بيننا للانتقال إلى أرضية ووضعية أخرى . القضية , هي الأسلوب والطريقة التي ستتبع في إدارة الحوار . هناك أمر لا بد أن يدركه " فوكس" أننا لن نصبح " فوكسيين" في هذه المحادثات . أن ما نريده من المفاوضات لن يتحقق إلا بالتعامل معنا باحترام منذ البداية , لذلك , لا أنا ولا أي شخص أخر سيتراجع أو يتخلى عن أدواته العسكرية مرة أخرى . أن التحدي الذي يواجهنا , ليس فقط ترتيب مائدة المفاوضات , بل أيضا اختيار من يشارك معنا في الحوار . نحن في حاجة لاختيار متحدث رسمي , وليس مجرد مستشارين إعلاميين لترويج صورة مزيفة معدة سلفا. أنه أمر ليس بالسهل . كانت الحرب أسهل . وإن كانت معالجتها ممكنه. ففي السياسة , يمكن التوصل إلى علاج في أغلب الأحيان .

ملابسك غريبة إلى حد ما : وشاح معقود على الرقبة وقبعة مائلة على الجانب. كما تحمل كشاف صغير , رغم أنك لا تحتاج إليه هنا , ولديك وسائل اتصال بالغة التعقيد , وترتدي ساعة في كل يد . هل هي رموز ؟ ماذا يعني كل ذلك ؟

البطارية لاستخدامها عند انقطاع الكهرباء , وجهاز اللاسلكي في تصور المستشارين للإجابة على أسئلة الصحفيين . الأكثر أهمية , هذا " الوكي- توكي" ( جهاز اتصال اللاسلكي) يسمح لي بالاتصال مع الأمن ومع رفاقي في الأدغال في حالة وجود أية مشكلة . فأنا أتلقى العديد من التهديدات بالموت . أما الكوفية , كانت حمراء حينما كانت جديدة منذ سبع سنوات . والكاب حصلت عليه حينما وصلت إلى أدغال " لاكاندون" منذ 18 عام . حينما وصلت إلى هذه الأدغال لم يكن معي سوى ساعة واحدة , وحصلت على الثانية حينما بدأ وقف إطلاق النار . فتزامنت الساعة الأولى مع بداية حرب الزاباتيستا , والثانية مع انتهاء الزاباتيستا كجيش مسلح ودخولها مرحلة جديدة .

كيف ترى المغاوير الكولومبيين , والصراع المسلح في كولومبيا ؟

من هنا , لا أعرف عنها سوى القليل . مجرد ما تنقله لنا وسائل الإعلام : الحوار الدائر وعملية المفاوضات الجارية , والصعوبات التي تكتنفها . عند هذا الحد , يمكنني أن أقول , أنه شكل من أشكال الحوار التقليدي- ولا يحمل أي تجديد أو ابتكار .فكلا الجانبان يجلسان معا للتفاوض وفي الوقت نفسه تسعى قواتهما المسلحة لكسب عسكري للحصول على ميزة تفاوضية . أو العكس , فنحن لا نعرف ما يدور في ذهن أي من الطرفين . فقد تكون المفاوضات نفسها فرصة لمواجهات عسكرية . نحن لا نولى أي اهتمام للاتهامات الخاصة بارتباطهم بتجارة المخدرات , لأنها ليست المرة الأولى التي تروج فيها مثل هذه الاتهامات التي يتضح زيفها في النهاية . نحن ندعم الكولومبيين ونساندهم بلا شك . ولا نسمح لأنفسنا بأن نحكم عليهم إذا ما كانوا صح أم خطأ , لكننا نحافظ على مسافة بعد عنهم , بالمثل كما نفعل مع كل الجماعات المسلحة في المكسيك .لأننا نعتبرها حتى الآن لم تضع أية معايير أخلاقية , وهو الأمر الضروري لتأمين انتصار الثورة . منها على سبيل المثال , استمرارها في عمليات اختطاف المدنيين . إن الاستيلاء على السلطة ليس غاية تجعل أي منظمة ثورية تفعل أي شئ من أجله . نحن لا نؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة . في النهاية, نحن نعتقد أن الغايات والوسائل شئ واحد .فنحن نحدد هدفنا باختيار وسائل النضال من اجله . بهذا المعنى , فنحن نولى قيمة لتعهداتنا ووعودنا , ونحترم الأمانة والصدق , فهي أمور لا بد منها . رغم ذلك , فقد ارتكبنا بعض الأخطاء الساذجة , على سبيل المثال , في أول يناير 1994 , أعلنا قبل هجوم على القوات المسلحة أننا سنشن هجوما . لكنهم لم يصدقونا . أحيانا يؤدي ذلك لنتائج مفيدة , وأحيانا لا . ولكننا نرى أننا , شأننا شأن أي منظمة, أن السلوك الذي نسلكه هو الذي يحدد هويتنا .

ألا تعتقد في إمكانية إجراء مفاوضات سلام أثناء الحرب , على نحو ما يحدث في كولومبيا ؟

أنه أمر غاية في السهولة , ومفرط في عدم المسئولية والاستهتار , بأن تقدم أراء هنا تعتمد على ما يحدث هناك أرض المعركة . عملية الحوار والتفاوض لا يمكن أن تنجح إذا أصر كل طرف على الاحتفاظ بمكاسبه . إذا استخدم أحد الأطراف المفاوضات كوسيلة لاختبار قوته , وإذا كان يمكنه هزيمة الأخر , فسوف تفشل المباحثات إن عاجلا أو آجلا. في هذه الحالة , فإن المفاوضات لا تعني سوى نقل ساحة المعركة إلى مائدة التفاوض . لكي ينجح الحوار والمفاوضات , فلا بد أن ينطلق طرفا الحوار من استحالة أن يهزم أي منهما الأخر . وأنهم في حاجة لاكتشاف سبيل لكي يخرجا منتصرين معا , أو على الأسوأ , منهزمين معا , المهم أن يضعا نهاية للمواجهة . بالطبع , هذا صعب- خاصة على الحركات التي تعمل منذ سنوات عديدة , مثل حرب العصابات في كولومبيا. أدرك أن الجانبان سيرتكبان الكثير من الحماقات والأخطاء , لكنني أعتقد أن المحاولة لم يفت وقتها .

هل تجد وقتا للقراءة في وسط كل هذه المشغوليات؟

نعم لأنه إذا لم أقرأ . . .ماذا يجب أن نفعل ؟ الأولويات لدى الجيوش , أن يستغل الجنود وقتهم في تنظيف أسلحتهم وتجهيز ذخائرهم . ولما كانت الكلمات هي أسلحتنا فلا بد أن نكون مستعدين في أي لحظة .

في كلامك , تؤكد على أهمية تعلم القراءة والكتابة . ما هي خلفيتك التعليمية ؟

منذ الطفولة , نشأت في أسرة , تولى الكلمات أهمية خاصة . كان طريقنا للعالم عبر اللغة . فتعلمنا القراءة , لم تفيدنا المدرسة كثيرا , بقدر ما أفادتنا قراءة الأعمدة في الصحف . في وقت مبكر, كانت أمي وأبي يوفرون لنا الكتب التي كشفت لنا أشياء وعوالم أخرى . وبشكل أو بأخر , أصبحنا ندرك اللغة وأهميتها – ليست مجرد وسيلة للاتصال , ولكن كشئ له معنى في ذاته . كانت تجلب لنا السعادة أكثر من أي عمل أخر . في الخلفية, وعلى خلاف المثقفين البرجوازيين , الذين لا يحترمون قيمة الكلمة . ارتبط ذلك الأمر بأمر ثانوي , وهو أن مجتمعات السكان الأصليين ترى أن اللغة ضربتنا , وكأنها منجنيق . بينما تدرك أنك تفتقر للكلمات المعبرة عن أشياء كثيرة , ونصفهما معا , ونحللها , وندرك مغزاها.

ممكن أسألك عن أسرتك ؟

أسرتي تنتمي للطبقة الوسطي . والدي تعلم في مدرسة ريفية في عهد " كارديناس", الذي كان يقول , يجب قطع أذن المعلمين لأنهم شيوعيون . أمي أيضا تعلمت في مدرسة في الريف , وانتقلت الأسرة إلى الطبقة الوسطى وأصبحت واحدة منها : ولذلك كانت لا تواجه صعوبات مالية . كل المناطق التي عاشت فيها الأسرة , كانت بها صحفا محلية تهتم صفحاتها الاجتماعية بالثقافة . كانت مكسيكوسيتي ومكتباتها هي العالم الخارجي , كان لكتبها التي تصل إلينا جاذبية خاصة . أحيانا , كانت تصدر كتبا محلية جميلة , كان الحصول عليها أمرا شيقا . قدم لنا الأبوان كتب " جارسيا ماركيز" , و " كارلوس فونتيس" و "مونسفياس" , و" فارجاس ليوسا" ( مع الإحترام لأفكاره ) . لا أذكر سوى القليل مما قرأته لهم . قرأنا " مائة عام من العزلة " , التي تحدثت عما كان يحدث في الريف آنذاك . و"موت أرتيموكروز" التي تتحدث عما حدث في الثورة المكسيكية . ورواية " ديازدي جاردر" عن ما يحدث في الطبقة الوسطى . وغيرهم , كانت روايات تصور شخصياتنا وحياتنا . كل هذه الكتب كانت متوفرة لدينا . نقلت لنا العالم , والثقافة . أعتقد أنها أثرت فينا بشدة . لم نكن نرى العالم من خلال أخبار الصحف , بل من خلال الرواية , والمقال , والشعر . وهو الأمر الذي جعلنا مختلفين إلى حد كبير . كان ذلك بفضل والداي , اللذان أرادا لنا أن نرى العالم من خلال الكتب , بينما كان الآخرون يفضلوا معرفة العالم من خلال وسائل الإعلام ,أو بالأصح من خلال التعتيم الإعلامي الذي لا يتيح لك رؤية ما يحدث .

أين موقع " دون كيشوت" من كل هذه القراءات ؟

حصلت على " دون كيشوت" في طبعة جميلة , وعمري حوالي12 عاما . كنت قد قرأته قبل ذلك . ولكن في طبعة مخصصة للأطفال . كان كتابا مرتفع السعر . بعد ذلك قرأت شكسبير . لكن الأدب الأمريكي اللاتيني كان يأتي في المقام الأول . وبعدهما " جارسيا لوركا". ثم الشعر على أية حال , هل هناك أهمية للخوض في الحديث عن كل ذلك .

هل ورد الوجوديون وسارتر في قراءاتك ؟

لا كل هذا حصلنا عليه مؤخرا , بعد أن أفسدنا الزمان , على حد قول العقائديين , حصلنا على الأدب الوجودي , وقبلها , على الأدب الثوري. حتى عندما قرأنا " ماركس " و " إنجلز" كنا مأسورين تماما بأسلوبهم الأدبي , وما يتميز به من سخرية وروح الدعابة .

هل قرأت أي نظرية سياسية ؟

لا منذ البداية , انتقلت مباشرة من تعلم الأبجدية إلى قراءة الأدب , ومنها إلى كتب النظرية والسياسة , حتى وصلت إلى المدرسة الثانوية .

هل كان رفاقك أو لازالوا يعتقدون أنك شيوعي ؟

لا , لا اعتقد ذلك . قد يعتبرني معظمهم مثل الفجلة الصغيرة : أحمر من الخارج , وأبيض من الداخل .

ماذا تقرأ الآن ؟

دائما " دون كيشوت " بجانبي , كما أحمل " أشعار لوركا " , لا تفارقني . " دون كيشوت" أفضل كتاب في النظرية السياسية , تأتي بعد ذلك مسرحيتي شكسبير , " هملت" , و" ماكبث". ليس هناك وسيلة لفهم النظام السياسي المكسيكي . سواء في مأساويته أو كوميديته , أفضل من أية أعمدة سياسية تنشرها الصحف .

هل تكتب بيديك أم تستخدم الكمبيوتر؟

أكتب على الكمبيوتر , إلا في هذه المسيرة , حيث أضطر كثيرا للكتابة بيدي , لا أجد الوقت الكافي للكتابة , مجرد كتابة مسودات أولية , مجرد أوامر سخيفة , لكنني أكاد أنتهي من روايتي التي بدأتها منذ زمن .

ما هو الكتاب الذي كتبته ؟

أسعى لاستخلاص فكرة حمقاء , تحاول أن تكشفنا أمام أنفسنا من وجهة نظرنا – هي فكرة مستحيلة واقعيا . التناقص الذي نحن عليه . لماذا نحن جيش ثوري مسلح لا يستهدف الاستيلاء على السلطة ؟ ولماذا لا تحارب قواتنا , رغم أن تلك هي وظيفتها ؟ نحن نواجه كل هذه المتناقضات , وأهمها : الطريقة التي تطورنا بها حتى أصبحنا قوة في المجتمع , ومع ذلك , لا زلنا حتى الآن ننطلق من ثقافة محلية راسخة .

إذا أدرك كل إنسان نفسه على حقيقتها , فلماذا تكون الأقنعة ؟

أنه درب أقرب إلى العبث , فهم لا يعرفون من أنا , لكنه شأن لا يتعلق بهم بأي شكل . الخازوق , أن " ماركوس" ليس هو " ماركوس "

الأحد، 20 يوليو 2008

ملف غارسيا ماركيز -غابرييل غارسيا ماركيز

أجمل غريق في العالم -غابرييل غارسيا ماركيز

الكاتب/ أنفاس

انفاسظنّه الأطفال لمّا رأوه ، أول مرة ، أنه سفينة من سفن الأعداء. كان مثلَ رعنٍ أسود في البحرِ يقترب منهم شيئا فشيئا. لاحظ الصبيةُ أنه لا يحمل راية ولا صاريًا فظنوا حينئذٍ أنه حوتٌ كبير، ولكن حين وصل إلى ترابِ الشاطيء وحوّلوا عنه طحالبَ السرجسِ و أليافَ المدوز و الأسماكَ التّي كانت تغطيهِ تبيّن لهم أنّه غريق.

شرعَ الصبيةُ يلعبون بتلك الجثة يوارونها في الترابِ حينًا ويخرجونها حينًا حتّى إذا مرّ عليهم رجلٌ ورأى ما يفعلون نَهَرهم وسعى إلي القريةِ ينبه أهلها بما حدث.

أحسّ الرجالُ الذين حملوا الميّتَ إلى أول بيتٍ في القرية أنه أثقل من الموتى الآخرين ، أحسّوا كأنهم يحملون جثّةَ حصانٍ وقالوا في ذات أنفسهم :

“ربما نتج ذلك عن بقاء الغريق فترة طويلة تحت البحرِ فدخل الماءُ حتى نخاع عظامه.”

عندما طرح الرجالُ الجثةَ على الأرضِ وجدوا أنّها أطولُ من قامة كلّ الرجال ، كان رأس الميتِ ملتصقًا بجدار الغرفة فيما اقتربت قدماه من الجدارِ المقابلِ ، وتساءل أحد الرجال عمّا لو كان ذلك ناتجًا عن أن بعض الغرقى تطول قاماتُهم بعد الموت.

كان الميتُ يحمل رائحةَ البحر ، وكانت تغطيه طبقةٌ من الطين و الأسماك. لم يكن من الضرورة تنظيف الوجه ليعرف الرجال أن الغريق ليس من قريتِهم ، فقريتهم صغيرة لا تحوي سوى عشرين من البيوت الخشبية الصغيرة ، و كانت القرية نادرةَ التربة مما جعل النسوة يخشين أن تحمل الريحُ الأطفال ومنع ذلك الرجالَ من زرع ِ الأزهار ، أمّا الموتى فكانوا نادرين لم يجد لهم الأحياءُ مكانًا لدفنهم فكانوا يلقون بهم من أعلى الجرف..

كان بحرُهم لطيفًا ، هادئًا و كريمًا يأكلون منه. لم يكن رجالُ القرية بكثيرين حيث كانت القوارب السبعةُ التي في حوزتهم تكفي لحملهم جميعًا ، لذلك كفى أن ينظروا إلى أنفسهم ليعلموا أنه لا ينقص منهم أحد..

في مساءِ ذلك اليوم لم يخرج الرجال للصيدِ في البحر. ذهبوا جميعًا يبحثون في القرى القريبة عن المفقودين فيما بقتِ النسوة في القريةِ للعناية بالغريق …أخذن يمسحن الوحلَ عن جسده بالألياف ويمسحن عن شعره الطحالب البحرية ويقشّرن ما لصق بجلده بالسكاكين..

لاحظت النسوة أن الطحالب التي كانت تغطي الجثة تنتمي إلي فصيلة تعيش في أعماقِ المحيطِ البعيدة ، كانت ملابسه ممزقة وكأنه كان يسبح في متاهةٍ من المرجان. ولاحظت النسوة أيضا أن الغريقَ كان قد قابل مَلَكي الموتِ في فخرٍ و اعتزاز فوجهه لا يحمل وحشةَ غرقى البحرِ ولا بؤس غرقى الأنهار. وعندما انتهت النسوة من تنظيف الميّت وإعداده انقطعت أنفاسهن ، فهن لم يرين من قبل رجلاً في مثل هذا الجمال و الهيبة..

لم تجد نساء القرية للجثة، بسبب الطولِ المفرطِ ، سريرًا ولا طاولة قادرة على حملها أثناء الليل. لم تدخل رِجْلا الميتِ في أكبرِ السراويل و لا جسدُه في أكبرِ القمصان ، ولم تجد النسوة للميّت حذاءً يغطي قدميه بعد أن جربوا أكبر الأحذية.

فقدت النسوة ألبابَهن أمام هذا الجسدِ الهائلِ فشرعن في تفصيل سروالا من قماشِ الأشرعة و كذلك قميصًا من “الأورغندي” الشفاف فذلك يليق بميّتٍ في مثل هذه الهيبة و الجمال..

جلست النسوة حول الغريق في شكلِ دائرةٍ بين أصابع كل واحدةٍ منهن إبرة وأخذت في خياطة الملابس ، كن ينظرن بإعجاب إلى الجثة بين الحين و الحين؛ بدا لهن أنه لم يسبق للريح ِ أن عصفت في مثل هذه الشدة من قبل ولا لبحر “الكاراييب” أن كان مضطربًا مثل ذلك المساء. قالت إحداهن ” أن لذلك علاقة بالميّت” ، وقالت أخرى ” لو عاش هذا الرجل في قريتنا لاشك أنه بنى أكبر البيوت وأكثرهن متانة ، لاشك أنه بنى بيتًا بأبواب واسعة وسقفٍ عالٍ وأرضيةٍ صلبة ولاشك أنه صنع لنفسه سريرًا من الحديد و الفولاذ ، لو كان صيادًا فلاشك أنه يكفيه أن ينادى الأسماك بأسمائها لتأتى إليه. ، لاشك أنه عمل بقوة لحفر بئرٍ ولأخرج من الصخور ماءً ولنجح في إنبات الزهر على الأجراف”..

أخذت كل واحدة منهن تقارنه بزوجها ، كان ذلك فرصة ثمينة للشكوى والقول أن أزواجهن من أكبر المساكين..

دخلت النسوة في متاهات الخيال.

قالت أكبرهن:” للميّت وجه أحد يمكن أن يسمّى إستبان”. كان هذا صحيحًا..كفي للأخريات أن ينظرن إليه لفهم أنه لا يمكن أن يحمل اسمًا آخر ، أمّا الأكثر عنادًا والأكثر شبابا فقد واصلت أوهامها بأن غريقًا ممدّدًا بجانب الأزهار وذا حذاء لامع لايمكن إلا أن يحمل اسمًا رومنطقيًا مثل “لوتارو”.

في الواقع ما قالته أكبرهن كان صحيحًا فلقد كان شكل الميت بلباسه مزريًا حيث كان السروال غير جيد التفصيل فظهر قصيرًا و ضيقًا ، حيث لم تحسن النسوة القياس وكانت الأزرار قد تقطعت وكأن قلب الميت قد عاد للخفقان بقوة..

بعد منتصف الليل هدأت الريحُ ، وسكت البحرُ ، وساد الصمتُ كل شيء . أتفقت النسوة عندها أن الغريق قد يحمل بالفعل اسم إستبان ، ولم تسُدْ الحسرة أية واحدة منهن: اللاتي ألبسن الميّتَ واللاتي سرحن شعره واللاتي قطعن أظافره وغسلن لحيته. لم تشعر واحدة منهن بالندم عندما تركن الجثة ممدّدة على الأرض ، وعندما ذهبت كل واحدة إلى بيتها فكرن كم كان الغريق مسكينًا وكم ظلت مشكلات كبر حجمه تطارده حتى بعد الموت ، لاشك أنه كان ينحني في كل مرة يدخل فيها عبر الأبواب .. لاشك أنه كان يبقي واقفا عند كل زيارة ، هكذا كالغبي، قبل أن تجد ربة البيت له كرسيا يتحمله…ولاشك أن ربةَ البيتِ كانت تتضرع للربّ في كل مرة ألا يتهشم الكرسي. وكان في كل مرة يرد عليها إستبان في ابتسامةٍ تعكس شعوره بالرضا لبقائه واقفا ..لاشك أنه ملّ من تكرر مثل هذه الأحداث ، ولاشك أيضا أن الناس كانوا يقولون له “ابق وأشرب القهوة معنا” ثم بعد أن يذهب معتذرا يتهامسون: “حمدا لله لقد ذهب هذا الأبله”.

هذا ما فكرت فيه النسوة فيما بعد عطفًا على الغريق..

في الفجر، غطت النسوة وجه الميّت خوفًا عليه من أشعة الشمسِ عندما رأين الضعف على وجهه. لقد رأين الغريق ضعيفًا مثل أزواجهن فسقطت أدمع من أعينهن رأفة ورحمة ، وشرعت أصغرهن في النواح فزاد الإحساس بأن الغريق يشبه إستبان أكثر فأكثر..

وزاد البكاء حتى أصبح الغريق أكبر المساكين على وجه الأرض..

عندما عاد الرجال بعد أن تأكدوا من أن الغريق ليس من القرى المجاورة امتزجت السعادة بالدموع على وجوه النسوة.

قالت النسوة: “الحمد لله ، ليس الميت من القرى المجاورة إذا فهو لنا!”..

أعتقد الرجال أن ذلك مجرد رياء من طرف النسوة ، لقد أنهكهم التعب وكان كل همّهم هو التخلص من هذا الدخيل قبل أن تقسو الشمس وقبل أن تشعل الريح نارها. أعدّ الرجال نقالة من بقايا شراع وبعض الأعشاب التي كانوا قد ثبّتوها بألياف البحر لتتحمّل ثقل الغريق حتى الجرف وأرادوا أن يلفّوا حول رِجلي الجثّة مرساة لتنزل دون عائق إلى الأعماق حيث الأسماك العمياء وحيث يموت الغواصون بالنشوة ، لفوا المرساة حتى لا تتمكن التيارات الضالة من العودة به إلى سطح البحر مثلما حدث مع بعض الموتى الآخرين.

ولكن كلّما تعجّل الرجال فيما يبغون كلّما وجدت النسوة وسيلة لضياع الوقت حيث تكاثر الزحام حول الجثة ؛ بعض من النسوة يحاول أن يلبس الميّت “الكتفيّة” حول كتفه اليمين لجلب الحظ حاول بعضٌ آخر أن يضع بوصلة حول رسغه الأيسر، وبعد صراع لغويّ وجسديّ رهيب بين النسوة شرع الرجال ينهرون ويصرخون :” مالهذه الوشايات والفوضى، ماذا تعلقن؟ ألا تعلمن أن أسماك القرش تنتظر الجثّة بفارغ الصبر؟ ما هذه الفوضى، أليس هذا إلا جثّة؟”..

بعدها رفعت امرأة الغطاء عن وجه الميّت فانقطعت أنفاس الرجال دهشة: “إنه إستبان!” لا داعي لتكرار ذلك لقد تعرفوا عليه. من يكون غيره، هل يظن أحد أن الغريق يمكن أن يكون السير والتر روليك على سبيل المثال؟ لو كان ذلك ممكنا فلاشك أنهم سيتخيلون لكنته الأمريكية وسيتخيلون ببغاء فوق كتفه وبندقية قديمة بين يديه يطلق بها النار على أكلة البشر..

لكن الجثة التي أمامهم غير ذلك، إنها من نوع فريد!

إنه إستبان يمتد أمامهم مثل سمكةِ السردين حافي القدمين مرتديًا سروال طفلٍ رضيع ، ثم هذه الأظافر التي لا تُقطع إلا بسكين. بدا الخجل على وجه الغريق ، ما ذنبه المسكين إذا كان طويلاً وثقيلاً وعلى هذا القدر من الجمال؟ لاشك أنه اختار مكانًا آخر للغرق لو عرف ما كان في انتظاره. قال أحد الرجال: “لو كنت محله لربطت عنقي بمرساة قبل أن اقفز من الجرف.. لا شك أنني سأكون قد خلصتكم من كل هذه المتاعب ومن جثتي المزعجة هذه.”

أعد سكان القرية أكبر جنازة يمكن تخيلها لغريقٍ دون هوية. رجعت بعض النسوة اللاتي كن قد ذهبن لإحضار الزهور من القرى المجاورة برفقة أخريات للتأكد من صحة ما سمعن.

عندما تأكدت نساء القرى المجاورة من شكل الغريق ذهبن لإحضار زهور أخرى ورفيقات أخريات حتى ازدحم المكان بالزهور وبالنساء..

في اللحظات الأخيرة تألّم سكانُ القرية من إرسال الغريق إلي البحر مثل اليتيم فاختاروا له أمًا وأبًا من بين خيرتهم وسرعان ما أعلن آخرون أنهم أخوته وآخرون أنهم أعمامه حتى تحول كل سكّان القرية إلى أقارب، وبينما كان الناس يتنافسون في نقل الجثمان فوق أكتافهم عبر المنحدر العسير المؤدّي إلى الجرف لاحظ سكان القرية ضيق شوارعهم وجفاف أرضهم ودناءة أفكارهم مقارنة بجمالِ هذا الغريق.

ألقى الرجال بالجثة عبر الجرف دون مرساة لكي تعود إليهم كيفما تشاء ومسكوا أنفاسهم في تلك اللحظة التي نزل فيها الميت إلى الأعماق ، أحسوا أنهم فقدوا أحد سكّان قريتهم وعرفوا، منذ تلك اللحظة، أن ثمة أشياء كثيرة لابد أن تتغير في قريتهم..

عرفوا أن بيوتهم تحتاج إلى أبواب عالية وأسقف أكثر صلابة ليتمكن شبح إستبان من التجول في القرية ومن دخول بيوتها دون أن تضرب جبهته أعمدة السقف ودون أن يوشوش أحد قائلاً لقد مات الأبله..

منذ ذلك اليوم قرر سكّان القرية دهن بيوتهم بألوان زاهية احترامًا لذكرى إستبان.. سوف ينهكون ظهورهم في حفر الآبار في الصخور وفي زرع الأزهار عبر الأجراف لكي يستيقظ بحارةُ السفنِ المارةِ في فجرِ السنواتِ القادمةِ علي رائحةِ الحدائق ولكي يضطر القبطان للنزول من أعلى السفينةِ حاملاً اسطرلابه ونجمتَه القطبية و يقول مشيرًا إلي الجبلِ الذي ينشر زهورَه الورديةَ نحو الأفق وفي كلّ لغاتِ العالم:

“أنظروا إلى هناك حيث هدوء الريح ِ وحيث ضوء الشمس.

هناك هي قرية إستبان!”.

-----------------------------------------------

ترجمة: د. محمد قصيبات

اضف هذا المقال على موقعك | طباعة | ارسال لصديق

تعليقات (12)

1. the meaning

كتبه wafaaهذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته , في 29-06-2007 14:51

salaam .i realy want to thank you for this beautiful site .Concerning the story of garcia i could'nt understand the aim behind this story ,in other words what does he want to say .please explain to me. :zzz

ملاحظة حول هذا التعليق

2. -

كتبه منال, في 04-07-2007 23:45

:roll

لن تكون الا مجرد قصة.

ملاحظة حول هذا التعليق

3. بلاهة قوم

كتبه رحيل, في 08-07-2007 01:17

هذه القصة توحي على ان الانسان محب للشقاءالابدي فاستبان ليس سوى رمز للتطورالذي رفضه الانسان والذي سيعيش على ذكرى رمز كان سيخرجه من كينونته الى الافق والى العيش في حياةافضل. :)

ملاحظة حول هذا التعليق

4. رائع هدا الرجل

كتبه عمر, في 15-07-2007 03:02

فاستبان وهو ميت غير عقول اهل القرية مادا لو كان حيا ؟ , غابرييل غارسيا ماركيز روائي خطير , شكرا على القصة

ملاحظة حول هذا التعليق

5. كتبه rohiteهذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته , في 16-07-2007 14:49

قصة جميلة حقا تحمل معان عدة تفهم حسب قدرة القارئ على الاستيعاب و من

الجميل استعمال الاسلوب الادبي لايصال الفكرة :) :p

ملاحظة حول هذا التعليق

6. good writer

كتبه ikramهذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته , في 17-08-2007 16:53

really nice and deep story that symbolises challenge and the optemistic view of life

ملاحظة حول هذا التعليق

7. كتبه جلال, في 23-08-2007 20:59

اظن ان سبب تاثر النساء هو رؤية شخص مختلف جمالا و هيكلا و هذا التاثر فتح خيالهن على ايجابياته انه كات سيكون قوي يحسن العيش احسن من رجالهن.دهشة تشبه دهشة و تأثر النسوة في سورة يوسف.

ملاحظة حول هذا التعليق

8. قضه أكثر من رائعه

كتبه نبض الغروب, في 18-09-2007 23:13

:cry :cry بصراحه تحزن وإن كانت من خيال الكاتب لكن رائعه جداً وطريقة الطرح أروع

ملاحظة حول هذا التعليق

9. جميلة رغم فظاعة وصف الميت

كتبه نديم الفقيه, في 20-09-2007 16:04

وصف مذهل يذكرني بمقطع مشهد سينيماءي تشبه عين الكاتب فيه حركة عدسة كاميرا. يكاد الخيال يثير حاسة الشم لدى القارء من فرط وصفها لبشاعة الموت. إستحق الكاتب جاءزة نوبل عن جدارة. :) :grin ;) 8) :p :roll :eek :upset :zzz :sigh :? :cry :( :x

ملاحظة حول هذا التعليق

10. تضاد في الوصف

كتبه القارئ الجديد, في 07-10-2007 10:29

نلاحظ أن الكاتب قد ذكر أن النساء وصفن الميت كان جميلا قويا تمنت نساء القرية ان يكون ازواجهم مثله لكنه في نفس الوقت قد كان يعيش كالغريب في بلده الذي لا يرغب أحد في إستضافته

ملاحظة حول هذا التعليق

انفاسظنّه الأطفال لمّا رأوه ، أول مرة ، أنه سفينة من سفن الأعداء. كان مثلَ رعنٍ أسود في البحرِ يقترب منهم شيئا فشيئا. لاحظ الصبيةُ أنه لا يحمل راية ولا صاريًا فظنوا حينئذٍ أنه حوتٌ كبير، ولكن حين وصل إلى ترابِ الشاطيء وحوّلوا عنه طحالبَ السرجسِ و أليافَ المدوز و الأسماكَ التّي كانت تغطيهِ تبيّن لهم أنّه غريق.

شرعَ الصبيةُ يلعبون بتلك الجثة يوارونها في الترابِ حينًا ويخرجونها حينًا حتّى إذا مرّ عليهم رجلٌ ورأى ما يفعلون نَهَرهم وسعى إلي القريةِ ينبه أهلها بما حدث.

أحسّ الرجالُ الذين حملوا الميّتَ إلى أول بيتٍ في القرية أنه أثقل من الموتى الآخرين ، أحسّوا كأنهم يحملون جثّةَ حصانٍ وقالوا في ذات أنفسهم :

“ربما نتج ذلك عن بقاء الغريق فترة طويلة تحت البحرِ فدخل الماءُ حتى نخاع عظامه.”

عندما طرح الرجالُ الجثةَ على الأرضِ وجدوا أنّها أطولُ من قامة كلّ الرجال ، كان رأس الميتِ ملتصقًا بجدار الغرفة فيما اقتربت قدماه من الجدارِ المقابلِ ، وتساءل أحد الرجال عمّا لو كان ذلك ناتجًا عن أن بعض الغرقى تطول قاماتُهم بعد الموت.

كان الميتُ يحمل رائحةَ البحر ، وكانت تغطيه طبقةٌ من الطين و الأسماك. لم يكن من الضرورة تنظيف الوجه ليعرف الرجال أن الغريق ليس من قريتِهم ، فقريتهم صغيرة لا تحوي سوى عشرين من البيوت الخشبية الصغيرة ، و كانت القرية نادرةَ التربة مما جعل النسوة يخشين أن تحمل الريحُ الأطفال ومنع ذلك الرجالَ من زرع ِ الأزهار ، أمّا الموتى فكانوا نادرين لم يجد لهم الأحياءُ مكانًا لدفنهم فكانوا يلقون بهم من أعلى الجرف..

كان بحرُهم لطيفًا ، هادئًا و كريمًا يأكلون منه. لم يكن رجالُ القرية بكثيرين حيث كانت القوارب السبعةُ التي في حوزتهم تكفي لحملهم جميعًا ، لذلك كفى أن ينظروا إلى أنفسهم ليعلموا أنه لا ينقص منهم أحد..

في مساءِ ذلك اليوم لم يخرج الرجال للصيدِ في البحر. ذهبوا جميعًا يبحثون في القرى القريبة عن المفقودين فيما بقتِ النسوة في القريةِ للعناية بالغريق …أخذن يمسحن الوحلَ عن جسده بالألياف ويمسحن عن شعره الطحالب البحرية ويقشّرن ما لصق بجلده بالسكاكين..

لاحظت النسوة أن الطحالب التي كانت تغطي الجثة تنتمي إلي فصيلة تعيش في أعماقِ المحيطِ البعيدة ، كانت ملابسه ممزقة وكأنه كان يسبح في متاهةٍ من المرجان. ولاحظت النسوة أيضا أن الغريقَ كان قد قابل مَلَكي الموتِ في فخرٍ و اعتزاز فوجهه لا يحمل وحشةَ غرقى البحرِ ولا بؤس غرقى الأنهار. وعندما انتهت النسوة من تنظيف الميّت وإعداده انقطعت أنفاسهن ، فهن لم يرين من قبل رجلاً في مثل هذا الجمال و الهيبة..

لم تجد نساء القرية للجثة، بسبب الطولِ المفرطِ ، سريرًا ولا طاولة قادرة على حملها أثناء الليل. لم تدخل رِجْلا الميتِ في أكبرِ السراويل و لا جسدُه في أكبرِ القمصان ، ولم تجد النسوة للميّت حذاءً يغطي قدميه بعد أن جربوا أكبر الأحذية.

فقدت النسوة ألبابَهن أمام هذا الجسدِ الهائلِ فشرعن في تفصيل سروالا من قماشِ الأشرعة و كذلك قميصًا من “الأورغندي” الشفاف فذلك يليق بميّتٍ في مثل هذه الهيبة و الجمال..

جلست النسوة حول الغريق في شكلِ دائرةٍ بين أصابع كل واحدةٍ منهن إبرة وأخذت في خياطة الملابس ، كن ينظرن بإعجاب إلى الجثة بين الحين و الحين؛ بدا لهن أنه لم يسبق للريح ِ أن عصفت في مثل هذه الشدة من قبل ولا لبحر “الكاراييب” أن كان مضطربًا مثل ذلك المساء. قالت إحداهن ” أن لذلك علاقة بالميّت” ، وقالت أخرى ” لو عاش هذا الرجل في قريتنا لاشك أنه بنى أكبر البيوت وأكثرهن متانة ، لاشك أنه بنى بيتًا بأبواب واسعة وسقفٍ عالٍ وأرضيةٍ صلبة ولاشك أنه صنع لنفسه سريرًا من الحديد و الفولاذ ، لو كان صيادًا فلاشك أنه يكفيه أن ينادى الأسماك بأسمائها لتأتى إليه. ، لاشك أنه عمل بقوة لحفر بئرٍ ولأخرج من الصخور ماءً ولنجح في إنبات الزهر على الأجراف”..

أخذت كل واحدة منهن تقارنه بزوجها ، كان ذلك فرصة ثمينة للشكوى والقول أن أزواجهن من أكبر المساكين..

دخلت النسوة في متاهات الخيال.

قالت أكبرهن:” للميّت وجه أحد يمكن أن يسمّى إستبان”. كان هذا صحيحًا..كفي للأخريات أن ينظرن إليه لفهم أنه لا يمكن أن يحمل اسمًا آخر ، أمّا الأكثر عنادًا والأكثر شبابا فقد واصلت أوهامها بأن غريقًا ممدّدًا بجانب الأزهار وذا حذاء لامع لايمكن إلا أن يحمل اسمًا رومنطقيًا مثل “لوتارو”.

في الواقع ما قالته أكبرهن كان صحيحًا فلقد كان شكل الميت بلباسه مزريًا حيث كان السروال غير جيد التفصيل فظهر قصيرًا و ضيقًا ، حيث لم تحسن النسوة القياس وكانت الأزرار قد تقطعت وكأن قلب الميت قد عاد للخفقان بقوة..

بعد منتصف الليل هدأت الريحُ ، وسكت البحرُ ، وساد الصمتُ كل شيء . أتفقت النسوة عندها أن الغريق قد يحمل بالفعل اسم إستبان ، ولم تسُدْ الحسرة أية واحدة منهن: اللاتي ألبسن الميّتَ واللاتي سرحن شعره واللاتي قطعن أظافره وغسلن لحيته. لم تشعر واحدة منهن بالندم عندما تركن الجثة ممدّدة على الأرض ، وعندما ذهبت كل واحدة إلى بيتها فكرن كم كان الغريق مسكينًا وكم ظلت مشكلات كبر حجمه تطارده حتى بعد الموت ، لاشك أنه كان ينحني في كل مرة يدخل فيها عبر الأبواب .. لاشك أنه كان يبقي واقفا عند كل زيارة ، هكذا كالغبي، قبل أن تجد ربة البيت له كرسيا يتحمله…ولاشك أن ربةَ البيتِ كانت تتضرع للربّ في كل مرة ألا يتهشم الكرسي. وكان في كل مرة يرد عليها إستبان في ابتسامةٍ تعكس شعوره بالرضا لبقائه واقفا ..لاشك أنه ملّ من تكرر مثل هذه الأحداث ، ولاشك أيضا أن الناس كانوا يقولون له “ابق وأشرب القهوة معنا” ثم بعد أن يذهب معتذرا يتهامسون: “حمدا لله لقد ذهب هذا الأبله”.

هذا ما فكرت فيه النسوة فيما بعد عطفًا على الغريق..

في الفجر، غطت النسوة وجه الميّت خوفًا عليه من أشعة الشمسِ عندما رأين الضعف على وجهه. لقد رأين الغريق ضعيفًا مثل أزواجهن فسقطت أدمع من أعينهن رأفة ورحمة ، وشرعت أصغرهن في النواح فزاد الإحساس بأن الغريق يشبه إستبان أكثر فأكثر..

وزاد البكاء حتى أصبح الغريق أكبر المساكين على وجه الأرض..

عندما عاد الرجال بعد أن تأكدوا من أن الغريق ليس من القرى المجاورة امتزجت السعادة بالدموع على وجوه النسوة.

قالت النسوة: “الحمد لله ، ليس الميت من القرى المجاورة إذا فهو لنا!”..

أعتقد الرجال أن ذلك مجرد رياء من طرف النسوة ، لقد أنهكهم التعب وكان كل همّهم هو التخلص من هذا الدخيل قبل أن تقسو الشمس وقبل أن تشعل الريح نارها. أعدّ الرجال نقالة من بقايا شراع وبعض الأعشاب التي كانوا قد ثبّتوها بألياف البحر لتتحمّل ثقل الغريق حتى الجرف وأرادوا أن يلفّوا حول رِجلي الجثّة مرساة لتنزل دون عائق إلى الأعماق حيث الأسماك العمياء وحيث يموت الغواصون بالنشوة ، لفوا المرساة حتى لا تتمكن التيارات الضالة من العودة به إلى سطح البحر مثلما حدث مع بعض الموتى الآخرين.

ولكن كلّما تعجّل الرجال فيما يبغون كلّما وجدت النسوة وسيلة لضياع الوقت حيث تكاثر الزحام حول الجثة ؛ بعض من النسوة يحاول أن يلبس الميّت “الكتفيّة” حول كتفه اليمين لجلب الحظ حاول بعضٌ آخر أن يضع بوصلة حول رسغه الأيسر، وبعد صراع لغويّ وجسديّ رهيب بين النسوة شرع الرجال ينهرون ويصرخون :” مالهذه الوشايات والفوضى، ماذا تعلقن؟ ألا تعلمن أن أسماك القرش تنتظر الجثّة بفارغ الصبر؟ ما هذه الفوضى، أليس هذا إلا جثّة؟”..

بعدها رفعت امرأة الغطاء عن وجه الميّت فانقطعت أنفاس الرجال دهشة: “إنه إستبان!” لا داعي لتكرار ذلك لقد تعرفوا عليه. من يكون غيره، هل يظن أحد أن الغريق يمكن أن يكون السير والتر روليك على سبيل المثال؟ لو كان ذلك ممكنا فلاشك أنهم سيتخيلون لكنته الأمريكية وسيتخيلون ببغاء فوق كتفه وبندقية قديمة بين يديه يطلق بها النار على أكلة البشر..

لكن الجثة التي أمامهم غير ذلك، إنها من نوع فريد!

إنه إستبان يمتد أمامهم مثل سمكةِ السردين حافي القدمين مرتديًا سروال طفلٍ رضيع ، ثم هذه الأظافر التي لا تُقطع إلا بسكين. بدا الخجل على وجه الغريق ، ما ذنبه المسكين إذا كان طويلاً وثقيلاً وعلى هذا القدر من الجمال؟ لاشك أنه اختار مكانًا آخر للغرق لو عرف ما كان في انتظاره. قال أحد الرجال: “لو كنت محله لربطت عنقي بمرساة قبل أن اقفز من الجرف.. لا شك أنني سأكون قد خلصتكم من كل هذه المتاعب ومن جثتي المزعجة هذه.”

أعد سكان القرية أكبر جنازة يمكن تخيلها لغريقٍ دون هوية. رجعت بعض النسوة اللاتي كن قد ذهبن لإحضار الزهور من القرى المجاورة برفقة أخريات للتأكد من صحة ما سمعن.

عندما تأكدت نساء القرى المجاورة من شكل الغريق ذهبن لإحضار زهور أخرى ورفيقات أخريات حتى ازدحم المكان بالزهور وبالنساء..

في اللحظات الأخيرة تألّم سكانُ القرية من إرسال الغريق إلي البحر مثل اليتيم فاختاروا له أمًا وأبًا من بين خيرتهم وسرعان ما أعلن آخرون أنهم أخوته وآخرون أنهم أعمامه حتى تحول كل سكّان القرية إلى أقارب، وبينما كان الناس يتنافسون في نقل الجثمان فوق أكتافهم عبر المنحدر العسير المؤدّي إلى الجرف لاحظ سكان القرية ضيق شوارعهم وجفاف أرضهم ودناءة أفكارهم مقارنة بجمالِ هذا الغريق.

ألقى الرجال بالجثة عبر الجرف دون مرساة لكي تعود إليهم كيفما تشاء ومسكوا أنفاسهم في تلك اللحظة التي نزل فيها الميت إلى الأعماق ، أحسوا أنهم فقدوا أحد سكّان قريتهم وعرفوا، منذ تلك اللحظة، أن ثمة أشياء كثيرة لابد أن تتغير في قريتهم..

عرفوا أن بيوتهم تحتاج إلى أبواب عالية وأسقف أكثر صلابة ليتمكن شبح إستبان من التجول في القرية ومن دخول بيوتها دون أن تضرب جبهته أعمدة السقف ودون أن يوشوش أحد قائلاً لقد مات الأبله..

منذ ذلك اليوم قرر سكّان القرية دهن بيوتهم بألوان زاهية احترامًا لذكرى إستبان.. سوف ينهكون ظهورهم في حفر الآبار في الصخور وفي زرع الأزهار عبر الأجراف لكي يستيقظ بحارةُ السفنِ المارةِ في فجرِ السنواتِ القادمةِ علي رائحةِ الحدائق ولكي يضطر القبطان للنزول من أعلى السفينةِ حاملاً اسطرلابه ونجمتَه القطبية و يقول مشيرًا إلي الجبلِ الذي ينشر زهورَه الورديةَ نحو الأفق وفي كلّ لغاتِ العالم:

“أنظروا إلى هناك حيث هدوء الريح ِ وحيث ضوء الشمس.

هناك هي قرية إستبان!”.

-----------------------------------------------

ترجمة: د. محمد قصيبات

غارسيا ماركيز...تعرف على ادب امريكا اللاتينية

الأديب غابرييل غارسيا ماركيز.. مبدع "مائة عام من العزلة"

٨ آذار (مارس) ٢٠٠٦بقلم


حيث البنادق تقتل الفلاحين.. يولد ماركيز..!

ولد غابرييل خوسيه غارسيا ماركيز في السادس من مارس عام 1928 في أراكاتاكا ، ولأن والديه كانا فقيرين ولا زالا يكافحان، فقد وافق جدّيه على مهمة تربيته، وهذه كانت عادة شائعة في ذلك الوقت.. لكن لا يمكن فهم التكوين الفكري والسياسي للكاتب دون التعرض لنبذة عن كولومبيا في ذاك الوقت وكيف عومل أجداده من قبل السلطات …

حصلت كولومبيا على استقلالها من أسبانيا عام 1810، وكان العداء والكراهية يسودان العلاقة بين الأسبان والهنود بالبلاد، فالأسبان مزقوا الأراضي في بحثهم عن الذهب، والمرتدين عن الدين، والنفوذ السياسي، في النهاية أعلنت كولومبيا استقلالها عن أسبانيا عندما عزل نابليون الملك الإسباني عام 1810، نعمت البلاد بعدها بفترة قصيرة ببعض الحرية إلى أن غزاها ثانية الجنرال موريللو عام 1815 من خلال عدد من الحملات هي الأكثر دموية في تاريخ المنطقة. غير أن سيمون بوليفار أعاد تحرير البلاد عام 1820 وأصبح أول رئيس لها. في عام 1849 تماسكت البلاد وابتعدت عن الخلافات إلى درجة تكوين حزبين سياسيين، هما حزب الأحرار وحزب المحافظين اللذين لا يزالا قائمين حتى هذا التاريخ.

هذان الحزبان شكلا الإطار الرئيسي لمعظم ما كتبه غارسيا ماركيز في مجال أدب الخيال، ويمثل الحزبان أسلوبان مختلفان تماماً فكريا وطبقيا، وكلاهما حاول أن يكون حزباً قمعياً ومرتشياً، إضافة إلى أن البلاد انقسمت إلى إقليمين رئيسيين هما الكوستينوس لمنطقة ساحل الكاريبي، والكاتشاكوس لمنطقة المرتفعات الوسطى، وكلا المجموعتين استخدمتا تعبيرات تحتقر الأخرى، حيث يتميز الكوستينوس بتكوينهم من خليط عرقي صوته مسموع، يميل إلى الخرافات، وبشكل أساسي منحدرين من أصول تعود إلى القراصنة والمهربين، وفيهم خليط من العبيد السود، وهم من هواة الرقص وحب المغامرة، أما الكاتشاكوس فهم أكثر رسمية وأرستقراطية، انحدروا من أصول عرقية نقية، ويشعرون بالفخر بسبب التقدم الواضح في مدنهم مثل مدينة بوغوتا. إضافة إلى فخرهم بمقدرتهم على التحدث باللغة الإسبانية بطلاقة . ..وكان قد أشار غارسيا ماركيز مراراً إلى أنه يرى نفسه " كمستيزو " و " كوستينو"، أي هجين فيه خصائص الاثنين معاً مما مكنّه من تكوين نفسه وتطويرها ككاتب.

وعلى مدى القرن التاسع عشر كانت الثورات والحروب الأهلية على المستويين المحلي والقومي قد دمرت كولومبيا، ووصلت ذروتها في 1899 عندما بدأت حرب الألف يوم، انتهى هذا الصراع في أواخر 1902 بهزيمة حزب الأحرار. كانت هذه الحرب قد خلفت ما يزيد على 100 ألف قتيل غالبيتهم من الفلاحين البسطاء وأبنائهم. وقد خاض هذه الحرب جدّ غارسيا ماركيز.

عامل آخر أثر على أعماله هو مذبحة إضراب مزارع الموز عام 1928- أي سنة مولده - ، حيث كان الموز له أهميته الاقتصادية في البلاد في ذاك الوقت ، وشركة الفواكه المتحدة الأمريكية كان لها حق الاحتكار الفعلي لتجارة الموز التي كانت في تلك الفترة المصدر الوحيد لدخل العديدين من الكوستينو بما فيها أراكاتاكا وكانت الشركة مرتشية استغلت عمالها الكولومبيين بشكل بشع.

في أكتوبر من عام 1928 قام ما يزيد على 32 ألف عامل بالإضراب مطالبين بأوضاع عمل صحية، وعلاج طبي، ودفعات نقدية بدلاً من صكوك الشركة التي لا يمكن صرفها. وكان رد فعل الأمريكيين تجاه إضراب العمال واعتراضاتهم هو تجاهل مطالبهم، وبعد بداية الإضراب بفترة قصيرة احتلت الحكومة الكولومبية منطقة مزارع الموز، واستخدمت القوات المسلحة لمجابهة المضربين، حتى أنها أرسلت قواتها لإطلاق النار على العمال العزل حينما حاولوا التظاهر بالقرية مسقط رأس ماركيز ، وبذلك قتلت المئات منهم. وخلال الشهور القليلة التي تلت، كانت أعداد كبيرة من الناس قد اختفت، وفي النهاية أُنكرت الواقعة برمتها بشكل رسمي، ومسحت من كتب التاريخ تماماً. لكن غارسيا ماركيز أدرج هذه الأحداث ووثقّها فيما بعد في كتابه "مائة عام من العزلة".

الأساطير والكتب تملأ عالم غابيتو

كانت كنية ماركيز التي ينادى بها هي غابيتو "غابرييل الصغير"، كان صبياً هادئاً خجولاً، مفتون بقصص جدّه وخرافات جدته، وعداه هو وجده كان البيت بيت نساء، ذكر ماركيز فيما بعد أن معتقداتهن جعلته يخشى مغادرة مقعده، نصف رعبه كان من الأشباح التي كن يتحدثن عنها، ومع ذلك كانت هذه الحكايات هي بذور أعماله المستقبلية. قصص الحرب الأهلية، وقصة مذبحة الموز، وزواج والديه، والمزاولات اليومية للطقوس المتعلقة بالخرافات، إضافة إلى حضور ومغادرة الخالات، وبنات جّده غير الشرعيات كل هذه الأمور كتب عنها غارسيا ماركيز فيما بعد قائلاً: "أشعر أن كل كتاباتي كانت حول التجارب التي مررت بها وسمعت عنها وأنا برفقة جدي".

مات جده عندما كان لا يزال في الثانية عشرة من عمره ونتيجة لذلك ساءت حالة العمى لدى جدته، فذهب ليعيش مع والديه في سوكر، حيث يعمل والده كصيدلاني بعد أن وصل إلى سوكر بفترة وجيزة، قرر والداه أنه قد آن الأوان ليتلقى تعليمه بشكل رسمي، فأرسلا به إلى مدرسة داخلية في بارانكويللا، وهي مدينة تقع على ميناء نهر ماغدالينا، هناك اشتهر عنه قصائده الظريفة ورسومات الكاريكاتير وبشكل عام كان جاداً وغير رياضي إلى درجة أن أقرانه في الفصل أطلقوا عليه كنية " الرجل العجوز".

في عام 1940 عندما كان لا يزال في الثانية عشرة من العمر، حصل على بعثة دراسية لمدرسة ثانوية للطلبة الموهوبين، كان يدير المدرسة اليسوعيون المتدينون، وكانت هذه المدرسة التي تسمى الليسو ناسيونال في مدينة زيباكويرا التي تبعد 30 ميلاً إلى الشمال من العاصمة بوغوتا، كانت الرحلة إليها تستغرق أسبوعاً، وفي ذلك الوقت وصل إلى نتيجة وهي أنه لا يحب بوغوتا. كانت أول مرة يرى فيها العاصمة، وجدها كئيبة وظالمة، وتجربته هذه ساعدته على تأكيد هويته ككوستينو.

وجد نفسه في المدرسة مهتماً بدراسته إلى أقصى حد، وفي الأمسيات كان يقرأ على زملاؤه في السكن الداخلي محتوى الكتب بصوت مرتفع ,بعد تخرجه عام 1946 عندما كان في الثامنة عشرة من العمر حقق أمنية والديه بالالتحاق بجامعة يونيفيرسيداد ناسيونال في بوغوتا كطالب لدراسة القانون بدلاً من الصحافة.

مرسيدس .. رفيقة الحياة .

خلال تلك الفترة التقى غارسيا ماركيز زوجة المستقبل أثناء زيارة لوالديه حيث تم تعريفه على فتاة في الثالثة عشرة من العمر تدعى مرسيدس بارتشا باردو. كانت شديدة السمرة وهادئة، انحدرت من أصول مصرية، يقول ماركيز إنه وجد أنها "أكثر إنسان ممتع قابله في حياته"، وبعد تخرجه من الليسيو ناسيونال، أخذ إجازة قصيرة مع والديه قبل الذهاب إلى الجامعة، أثناء تلك الفترة طلب يدها للزواج .

ماركيز مع زوجته مرسيدس و أحد أبنائه

وافقت على شرط أن تنهي دراستها أولاً، وقامت بتأجيل الخطوبة، ومع أنهم لم يكونوا ليتزوجوا قبل أربعة عشر عاماً .. المقربون من الكاتب يعرفون مدى أهميتها بالنسبة له؛ فهي التي تدير أمور العائلة، وهو يتحدث عنها باستمرار، ويقول "إن زوجتي وولدَي أهم ما في حياتي، وبفضلهم استطعت تخطي الصعاب التي واجهتني", ولماركيز ابنان "رودريجو" مخرج سينمائي يعيش في الولايات المتحدة، و"جونزالو" مصمم جرافيك ويعيش في المكسيك.

ولد ليكون أديبا.. وجد غارسيا ماركيز أنه لا يوجد لديه أي اهتمام في دراسته، وأصبح كسولاً إلى درجة كبيرة، فبدأ بالتخلف عن حضور المحاضرات، وأهمل دراسته، ونفسه كذلك، كان يفضّل التجول في بوغوتا، والتنقل في مواصلاتها، وقراءة الشعر بدلاً من دراسة القانون، تناول طعامه في المقاهي الرخيصة، ودخن السجائر، واختلط بالمشبوهين المعتادين مثل الاشتراكيين المثقفين، والفنانين المتضورين جوعاً، والصحفيين الواعدين، وفي يوم ما، تغيرت حياته بأكملها من خلال قراءة كتاب واحد بسيط ، اسمه "كافكا".. كان لهذا الكتاب أكبر الأثر على ماركيز، حيث جعله يدرك أنه لم يكن على الأديب أن يتحدث عن نفسه على شكل قصة تقليدية. يقول: "فكرت في نفسي.. لم أعرف إنساناً قط كان مسموحاً له بالكتابة بهذا الأسلوب، لو كنت أعرف لكنت بدأت الكتابة منذ زمن طويل" .." إن صوت كافكا كان له نفس الصدى الذي امتلكته جدتي، كانت هذه هي طريقتها التي استخدمتها في رواية القصص، حيث تحدثت عن أغرب الأحداث، بنبرة صوت طبيعية تماماً".

حاول بعدها أن يلحق بما فاته من الأدب الذي لم يكن قد اطلع عليه، بدأ بالقراءة بنهم شديد، وبدأ أيضاً بكتابة قصص الخيال، وتفاجأ هو شخصياً بقصته الأولى "الاستقالة الثالثة" عندما نشرت عام 1946 في صحيفة بوغوتا الليبرالية "الإسبكتيتور" ( حتى أن ناشره المتحمس مدحه وقال عنه "العبقري الجديد للكتابة الكولومبية" )، دخل بعدها ماركيز مرحلة الإبداع بكتابة عشرة قصص أخرى للصحيفة خلال السنوات القليلة اللاحقة.

العنف يطارد ذاكرة الأديب

هناك فترة عايشها الأديب ماركيز وأثرت على كتاباته بشكل كبير يُطلق عليها " لا فايولينسيا" أي العنف، امتدت جذور هذا العنف إلى مذبحة الموز، في ذلك الوقت شخص واحد فقط من رجال السياسة امتلك الشجاعة إلى درجة الوقوف في وجه الحكومة وانتقاد فسادها، كان اسمه جورجي ايليسير غيتان، وهو شاب من أعضاء الكونجرس من الليبراليين، حيث نادى في اجتماعات الكونجرس بالتحقيق في الحادث , بدأت شهرة غيتان بعدها تنتشر كبطل للفلاحين والفقراء .

لكنه أصبح مصدر قلق لأعضاء الكونجرس من ذوي النفوذ من كلا الحزبين، وكان يبشر من خلال الإذاعة بحلول وقت التغيير الذي يجبر الشركات على التصرف بشكل مسئول , بحلول عام 1946 كان غيتان قد أصبح ذا نفوذ قوي لأن يتسبب بانشقاق في حزبه الذي كان قوياً وفي المرتبة الأولى منذ عام 1930 ، أدى هذا الانشقاق إلى عودة المحافظين إلى السلطة، وإلى الشعور بالخوف من ردة فعل انتقامية متوقعة، لذلك بدءوا بتنظيم جماعات برلمانية كان الغاية منها إشاعة الرعب في قلوب الناخبين الليبراليين، وهذا ما نجحوا في تحقيقه بشكل يثير الإعجاب عندما قاموا بقتل الآلاف منهم، في عام 1947 استطاع الليبراليون أن يسيطروا على الكونغرس، وبذلك نصبوا غيتان رئيساً للحزب وفي التاسع من أبريل عام 1948 اغتيل غيتان في بوغوتا وارتجـّت المدينة بحالات مميتة من الشغب لمدة ثلاثة أيام، هذه الفترة أطلق عليها اسم بوغوتازو وكانت حصيلتها 2500 قتيل، كما تم تنظيم فرق جيوش مقاتلة من كلا الحزبين، وساد الرعب أنحاء البلاد .. حرقت أثناءها المدن والقرى، وقتل الآلاف بشكل وحشي ، وصودرت المزارع، وهاجر أكثر من مليون فلاح إلى فنزويلا . وفي النهاية حلَّ المحافظون الكونجرس، وأعلنوا البلاد في حالة حصار، وتمت ملاحقة الليبراليين وحوكموا وأعدموا .

تقطّعت أوصال البلد في فترة العنف هذه التي كانت من نتائجها مقتل ما يزيد عن 150 ألف كولومبي حتى عام 1953 ، هذا العنف أصبح فيما بعد الخلفية الأساسية للعديد من روايات ماركيز وقصصه، خصوصاً ما كتبه في رواية "الساعة الشريرة".

وككاتب إنسانيات من عائلة متحررة، كان لاغتيال غيتان عام 1948 تأثير كبير على ماركيز، حتى أنه شارك في مظاهرات البوغوتازو ، أغلقت في تلك الفترة كلية اليونيفيرسيداد ناسيونال، مما عجّل بانتقاله إلى الشمال الأكثر أمناً، حيث انتقل إلى جامعة كاراتاغينا، هناك تابع دراسة القانون بفتور، وأثناء ذلك كان يكتب عموداً يومياً لصحيفة اليونيفيرسال، وهي صحيفة كارتاغينية محلية، في النهاية قرر أن يتخلى عن محاولاته في دراسة القانون عام 1950.

وقد كانت الصحافة مصدر إلهام كبير لماركيز في الكثير من أعماله حتى أن واحدة من أشهر أعماله "خريف البطريرك" قد اختمرت في رأسه بشكل كامل أثناء تغطية صحفية كان يقوم بها لمحاكمة شعبية لأحد الجنرالات المتهمين بجرائم حرب، ومن ناحية أخرى فان عمله الصحفي أتاح له نفوذا كبيرا في كثير من الأنظمة الحاكمة ومراكز السلطة في أمريكا اللاتينية بالإضافة إلى شبكة اتصالات واسعة بشخصيات سياسية ما كانت شخصيته كأديب ستسمح له بها.

"فولكنر" و "سوفوكليس".. إشارة البدء

" ان اكثر ما يهمني في هذا العالم هو عملية الإبداع . أي سر هو هذا الذي يجعل مجرد الرغبة في رواية القصص تتحول إلى هوى يمكن لكائن بشري أن يموت من اجله ، أن يموت جوعا ، أو بردا ، أو من أي شئ آخر لمجرد عمل هذا الشيء الذي لا يمكن رؤيته أو لمسه ، وهو شئ في نهاية المطاف ، إذا ما أمعنا النظر ، لا ينفع في أي شئ ؟ "

كرس ماركيز في الفترة اللاحقة نفسه للأدب حيث انتقل ليعيش في بارانكويللا، وبدأ بالاختلاط بالدائرة الأدبية التي يطلق عليها اسم إيل غروبو دي بارانكويللا، وتحت تأثيرها بدأ يقرأ أعمال همنجواي، وجويس، وولف، والأهم من كل هؤلاء فولكنر. كذلك وقعت يده على دراسة عن الروائع الأدبية وجد من خلالها الإلهام الكبير في أوديبوس ريكس التي كتبها سوفوكليس. أصبح كل من فولكنر، وسوفوكليس أكبر تأثير مرّ عليه في حياته خلال أواخر سنوات الأربعينات وبداية الخمسينات، بهره فولكنر في مقدرته على صياغة طفولته على شكل ماضٍ أسطوري، ومن كتاب أوديبوس ريكس، وأنتيجون لسوفوكليس وجد الأفكار لحبكة رواية تدور حول المجتمع، وإساءة استخدام السلطة فيه، علمه فولكنر أن يكتب عن أقرب الأشياء إليه وقد حدث.

عندما عاد برفقة والدته الى بيت جدته في أراكاتاكا، لتجهيز البيت من أجل بيعه، وجدوا البيت في حالة مزرية وبحاجة للكثير من الإصلاح، ومع ذلك، أثار هذا البيت في رأسه زوبعة من الذكريات كان يرغب في رواية بعنوان "لاكازا " البيت"، وعند عودته إلى بارانكويللا كتب أولى رواياته "عاصفة الورقة" بحبكة معدّلة عن أنتيجون، وأعاد نقلها إلى البلدة الأسطورية، ولكن في عام 1952، رفض الناشر عرض القصة إلى عام 1955 حين كانت الأجواء تهيأت لإخراجها من الدرج وأثناء وجود غارسيا ماركيز في أوروبا الشرقية وقد نشرت على يد أصدقاء ماركيز الذين أرسلوها للناشر.

كان في هذا الوقت لديه أصدقاء وعمل ثابت في كتابة أعمدة لصحيفة الهيرالدو، وفي المساء عمل على كتابة قصصه الخيالية، بعد ذلك عام 1953 حاصرته حالة من القلق، فجمع حاجياته، واستقال من عمله، وبدأ يبيع الموسوعات في لاغواجيرا مع صديق له، ثم خطب مرسيدس بارتشا بشكل رسمي، انتقل بعدها في 1954 مرة أخرى الى بوغوتا، وقبل بالعمل ككاتب للقصص والمقالات عن الأفلام في صحيفة السبيكتاتور.

نحو تحرر الشعوب..

هناك بدأ بمغازلة الاشتراكية، محاولاً أن يفلت من انتباه الدكتاتور غوستافو روجاز بينيللا في ذلك الوقت، وكان يفكر كثيراً في واجباته ككاتب في فترة العنف , وفي عام 1955 حصلت حادثة أعادته إلى طريق الأدب، وأدت بشكل ما إلى نفيه المؤقت من كولومبيا، حينما غرقت المدمرة الكولومبية الصغيرة "الكاداس" في مياه البحر العالية أثناء عودتها من كارتاغينا، وجرف العديد من البحارة عن ظهر المركب وماتوا جميعاً، عدا رجل واحد هو لويس اليخاندرو فيلساكو.

ماركيز يدعو لتحرر الشعوب

الذي استطاع أن يعيش لمدة عشرة أيام في البحر متمسكاً بقارب نجاة , وعندما جرفته الأمواج إلى الشاطئ ، أصبح بسرعة مذهلة بطلاً قومياً، فاستخدمته الحكومة في الدعاية لها، قام فيلاسكو بعمل كل شيء، من إلقاء الخطب إلى الدعاية لساعات اليد والأحذية، وفي النهاية قرر أن يقول الحقيقة.. كانت سفينة الكالداس تحمل بضائع غير مشروعة، وأغرقتهم مياه البحر بسبب إهمالهم وعدم كفاءتهم ! وبزيارته لمكاتب صحيفة ايل سبيكتاتور قدم فيلاسكو قصته لهم، وبعد تردد قبلوا بها، سرد فيلاسكو قصته على غارسيا ماركيز ، والذي أعاد صياغة قصته نثراً، ونشر القصة على مدى أسبوعين كاملين، تحت عنوان "حقيقة مغامرتي، قصة لويس اليخاندرو فيلساكو"، أثارت القصة ردة فعل قوية، فبالنسبة لفيلاسكو طردته البحرية من العمل، وكان يُخشى من أن بينيللا قد تطالب بمحاكمة غارسيا ماركيز، فأرسلته دار نشره إلى إيطاليا لتغطية نبأ الموت الوشيك للبابا بيوس الثاني عشر، غير أن بقاء البابا على قيد الحياة جعل رحلته دون فائدة، فرتب لنفسه رحلة حول أوروبا كمراسل، وبعد مراجعة للخطة في روما، بدأ بجولة في الكتلة الشيوعية، وبعد ذلك في نفس تلك السنة استطاع أصدقاؤه أن ينشروا له أخيراً روايته "عاصفة ورقة" في بوغوتا.

تجول ماركيز مسافراً بين جنيف، وروما، وبولندا، وهنغاريا، واستقر في النهاية في باريس حيث وجد نفسه عاطلاً عن العمل، عندما أغلقت حكومة بينيللا مطابع صحيفة أيل سبيكتاتور، عاش في الحي اللاتيني من المدينة، حيث حصل على متطلبات معيشته على شكل ديون مؤجلة، إضافة إلى القليل من النقود من إعادة الزجاجات الفارغة.. وهناك تأثر بكتابات همنغواي، وطبع حوالي إحدى عشر مسودة من روايته "لا أحد يكتب للكولونيل" نقرأ فيها عن كولونيل انتهى دوره السياسي واصبح خارج اللعبة، يرصد جزيئات حياته اليومية، عارضاً بؤسها، تفاصيل صغيرة تحكي ما آلت إليه حياة الكولونيل، فالرجل الذي قضى حياته عسكرياً مرموقاً في ظل الدكتاتورية التي تحكم بلداً من بلدان العالم الثالث، اصبح الآن وحيداً، منبوذاً، يعاني من بؤس وفراغ مدمرين، يتشبث يائساً بالحياة، منتظراً بريداً لا يصل أبدا، البريد الحامل لجواب الحكومة والمتعلق براتبه التقاعدي، إضافة إلى جزء من رواية "الساعة الشريرة" .

بعد الانتهاء من رواية الكولونيل سافر إلى لندن، وفي النهاية عاد إلى فنزويلا المكان المفضل للاجئين الكولومبيين، هناك أنهى روايته "البلدة المكونة من الهراء" ، الذي كان معظمه حول فترة العنف وتعاون مع صديقه القديم بلينيو أبوليو الذي كان حينها محرراً في صحيفة "ايلايت" وهي صحيفة أسبوعية في كاراكاس، وطوال عام 1957 تجول كلاهما في دول أوروبا الشيوعية باحثين عن أجوبة وحلول لمشكلات كولومبيا، مساهمين بمقالات في دور النشر الأمريكية اللاتينية المختلفة، ومع إيمانهم بوجود شيء جيد في الشيوعية، إلا أن غارسيا ماركيز أيقن بأن الشيوعية قد تكون سيئة بنفس مقدار درجة العنف التي مرت بها البلاد، وبعد مكوثه في لندن لمدة وجيزة، عاد مرة أخرى إلى فنزويلا .

وفي 1958 جازف ماركيز بالعودة إلى كولومبيا بشكل مستتر، واختفى عن الأنظار متسللاً إلى بلدته الأصلية، وتزوج بمرسيدس باتشا التي كانت تنتظره في بارانكويللا لسنوات طويلة، وبعد ذلك تسلل هو وعروسه مرة أخرى عائداً بها إلى كاراكاس ، وبعد أن نشرت صحيفة "مومينتو" بعض المقالات عن الخيانة الأمريكية، واستغلال الطغاة، أذعنت للضغط السياسي وأخذت موقفاً موالياً لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية بعد زيارة نيكسون المدمرة في مايو، مشحونين بالغضب من موقف صحيفتهما سلّم كل من غابرييل غارسيا ماركيز، وصديقه ميندوزا استقالتيهما.

بعد فترة وجيزة من تركه لوظيفته في صحيفة "مومينتو" وجد ماركيز نفسه هو وزوجته في هافانا حيث كان يغطي أحداث ثورة كاسترو، ألهمته الثورة فساعد من خلال فرع بوغوتا في وكالة أنباء كاسترو برنسالاتينا، وكانت بداية صداقة بينه وبين كاسترو استمرت حتى هذه اللحظة.

ساعة شريرة تصيبه بالإحباط

وفي عام 1959 ولد رودريجو الابن الأول لغارسيا ماركيز، وانتقلت العائلة لتعيش في مدينة نيويورك، حيث كان مشرفاً على فرع صحيفة "برنسا لاتين" في أمريكا الشمالية، واجتهدوا كثيراً تحت تهديدات القتل التي وجهها لهم الأمريكان الغاضبون فاستقال ماركيز من عمله بعد عام واحد، وأصبح مشوشاً بالنسبة للتصدعات الفكرية التي كانت تحدث في الحزب الاشتراكي الكوبي. فانتقل بعائلته إلى مدينة مكسيكو، مسافراً عبر الجنوب وحُرِمَ من دخول الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى حتى عام 1971.

في مدينة مكسيكو عمل على ترجمة الأفلام، وعمل على كتابة السيناريوهات المسرحية، وأثناء ذلك بدأ بنشر بعض رواياته الخيالية. ساعده أصدقاءه على نشر رواية "لا أحد يكتب إلى الكولونيل" عام 1961، وبعد ذلك، رواية " جنازة الأم الكبيرة" عام 1962، في نفس ذلك العام ولد ابنه الثاني غونزالو. وأخيراً أقنعه أصدقاؤه بدخول مسابقة الأدب الكولومبي في بوغوتا. راجع رواية "الساعة الشريرة" وقدمها ففازت. فقام رعاة الجائزة بإرسال الكتاب إلى مدريد من أجل نشره، وصدر عام 1962، وكانت خيبة أمله كبيرة، فقد قام الناشر الإسباني بالتخلص من جميع الألفاظ العاميّة المستخدمة في أمريكا اللاتينية، وكل المادة التي اعترض عليها، ونقحها إلى درجة يصعب فيها التعرف على العمل الأصلي ، وجعل الشخصيات تتكلم اللغة الإسبانية الرسمية الموجودة في القواميس، فاكتئب ماركيز إلى درجة كبيرة، واضطر إلى رفض العمل، وكان عليه أن يعمل حوالي نصف عقد حتى يعيد نشر الكتاب بشكل مـُرضي.

طغى عليه الشعور بالفشل، لم يبع من أعماله أكثر من 700 نسخة، ولم يحصل على أي حقوق للتأليف، وحتى هذه اللحظة رواية "ماكوندو" فلتت من قبضته أيضاً , في عام 1967 نشر كتاب بعنوان "خبر اختطاف " عن الكفاح الدامي لكولومبيا ضد المخدرات والإرهاب.

مائة عام من العزلة

"ماكوندو" هي البلدة التي تدور فيها أحداث "مائة عام من العزلة"، والموقع الجغرافي الحقيقي لماكوندو، يقع على أرض أمريكا اللاتينية في مخيلة ماركيز. فورا بعد لحظة التنوير تلك بدأ ماركيز في كتابة روايته "مائة عام من العزلة"، كان يكتب يوميا، ولم يتوقف عن الكتابة لمدة 18 شهرًا متواصلة، كرس نفسه كليا للكتابة حتى أنه توقف عن العمل لإعالة أسرته واضطر لبيع كل ما ممتلكاته من أثاث وأجهزة منزلية، كما تراكمت عليه الديون.

مائة عام من العزلة مع مجموعة من رواياته

ماكوندو هي المدينة العالم التي أعاد ماركيز بناءها بكل ما يحمل في قلبه من ذكريات الطفولة وبيت النمل وحكايات الجدة، والموتى الأحياء، وبالنبرة ذاتها التي كانت تحكي بها الجدة الحكايات تحدث ماركيز عن الحرب والعنف وضياع المبادئ وسط الثورات الدامية والخلافات الأيدلوجية التي كانت تفتك ببلاده. نشرت مائة عام من العزلة عام 1967، بيعت منها على الفور 8000 نسخة آنذاك، وبعد مرور 3 سنوات على نشرها كانت قد باعت نصف مليون نسخة، وترجمت إلى 12 لغة، وحصلت على 4 جوائز، لقد حولت ماركيز إلى أشهر كاتب في أمريكا اللاتينية، وواحد من أشهر كتاب العالم.

دبلوماسية ماركيز لإحلال السلام

مازال ماركيز يحظى بزيارات مشاهير العالم مثل الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون ورئيس الوزراء الأسباني السابق فليب جونزاليس ويقضي الساعات في مناقشة الأحوال السياسية والتطرق لدوره البارز باعتباره وسيط في عملية السلام بين متمردي الجناح الأيسر والحكومة الكولومبية وهو يري أنه نجح في إصلاح الكثير من القضايا التي غاب عنها وجه العدالة في جميع أنحاء العالم وذلك باستخدام دبلوماسيته التي اشتهر بها وهو ما يعده ماركيز تكتيكا أكثر فاعلية من مجرد الاستعانة بالبروتوكولات الرسمية.

في السادس من أغسطس عام 1986 ألقى ماركيز خطبة في اجتماع عالمي لمناسبة ضحايا قنبلة هيروشيما، رسم فيه الصورة المظلمة لحاضر الإنسان ومستقبله في ظل السيطرة النووية للدول الكبرى، وأعاد إلى الأذهان احتمالات ما بعد الكارثة، وأرجح هذه الاحتمالات أن الصراصير وحدها ستكون شاهدة على حضارة الإنسان بعد أن يحل ليل أبدي بلا ذاكرة.

نوبل بين من يستحقها ومن لا يستحقها..؟

في عام 1982 حصل غابرييل غارسيا ماركيز على جائزة نوبل للأدب عن رائعته «مائة عام من العزلة».. وعندما تسلم الكاتب الكولومبي قيمة الجائزة كان أول ما فكر فيه هو شراء دار صحفية يعود من خلالها لممارسة عمله المفضل في الحياة: "لقد ظلت النقود موضوعة في احد البنوك السويسرية لمدة ستة عشر عاما نسيت خلالها امرها تماما حتى ذكرتني بها مرسيدس فكان أول ما فعلت هو شراء كامبيو". هكذا يقول بنفسه. وكامبيو Cambio هي مجلة إخبارية أسبوعية حققت نجاحا تجاريا كبيرا بسبب المقالات التي يكتبها ماركيز فيها والتي تعتبر وسيلته للتحاور مع قرائه عن طريق الرد على أسئلتهم واستفساراتهم التي تكشف في أحيان كثيرة عن جوانب لم تكن معروفة عن حياته. كما ينقب كثير منها في أغوار مطبخه الأدبي ليكشف عن كثير من أسرار اشهر أعماله. وقال لحظة تسلمه الجائزة: "لقد أدركت أن عبقريتي الحقيقية موجودة في جذوري ببيت أركاتيكا بين النمل وحكايات الجد والجدة، على أرض كولومبيا في أمريكا اللاتينية".

أدرك ماركيز أن جائزته الكبرى ربما تذهب لمن لا يستحقها، " إنه لمن عجائب الدنيا حقًّا أن ينال شخص كمناحيم بيجين جائزة نوبل في السلام، تكريمًا لسياسته الإجرامية التي تطورت في الواقع كثيرًا خلال السنوات الماضية على يد مجموعة من أنجب تلاميذ المدرسة الصهيونية الحديثة.. إلا أن الموضوعية تفرض أن نعترف بأن الذي تفوق على الجميع هو الطالب المجد ارييل شارون.".

غابرييل خوسيه غارسيا أثناء تسلمه جائزة نوبل

ويقول عن اقتسام الرئيس أنور السادات وبيجن لجائزة نوبل السلام : "الرجلان اقتسما الجائزة، لكن المصير اختلف من أحدهما إلى الآخر، الاتفاقية ترتب عليها في حالة أنور السادات انفجار بركان الغضب داخل جميع الدول العربية، فضلا عن أنه - ذات صباح من أكتوبر 1981- دفع حياته ثمنًا لها. أما بالنسبة لبيجين فلقد كانت هذه الاتفاقية نفسها بمثابة الضوء الأخضر، ليستمر بوسائل مبتكرة في تحقيق المشروع الصهيوني الذي لا يزال حتى هذه اللحظة يمضي قدمًا. أعطته الجائزة أول الأمر الغطاء اللازم حتى يذبح - بسلام- ألفين من اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات داخل بيروت سنة 1982… جائزة نوبل في السلام فتحت الطريق على مصراعيه لقطع خطوات متزايدة السرعة نحو إبادة الشعب الفلسطيني، كما أدت إلى بناء آلاف المستوطنات على الأرض الفلسطينية المغتصبة. ‏" ويقول : " هناك بلا شك أصوات كثيرة على امتداد العالم تريد أن تعرب عن احتجاجها ضد هذه المجازر المستمرة حتى الآن، لولا الخوف من اتهامها بمعاداة السامية أو إعاقة الوفاق الدولي….أنا لا أعرف هل هؤلاء يدركون أنهم هكذا يبيعون أرواحهم في مواجهة ابتزاز رخيص لا يجب التصدي لـه بغير الاحتقار. لا أحد عانى في الحقيقة كالشعب الفلسطيني… أنا أطالب بترشيح ارييل شارون لجائزة نوبل في القتل، سامحوني إذا قلت أيضًا إنني أخجل من ارتباط اسمي بجائزة نوبل. أنا أعلن عن إعجابي غير المحدود ببطولة الشعب الفلسطيني الذي يقاوم الإبادة "

التوقف عن الكتابة

اشتهر ماركيز في السنوات الأخيرة بغزارة إنتاجه الأدبي ففي عام 2002نشر الجزء الأول من سيرته الذاتية "عشت لأروي"، والتي يستعيد فيها أدق تفاصيل الطفولة والشباب، بصورة درامية وبدأ في كتابتها بعدما علم أنه مصاب بمرض السرطان في عام 1999م يقول: "إن وهبني الرب من الحياة قطعة فسأرتدي ملابس بسيطة، وأستلقي تحت الشمس…" وقد ترجمها للعربية الدكتور طلعت شاهين، الجزء الأول من تلك المذكرات صدر في طبعة من مليون نسخة تم تقديمها في كل من برشلونة وبوجوتا وبوينس ايريس والمكسيك في وقت واحد ، وفي عام 2004 كتب روايته الشهيرة "ذكريات غانياتي الحزينات" التي لاقت رواجا غير مسبوق في شتي أنحاء العالم، غير أنه في لقاء له بصحيفة "لا فينجرديا" المكسيكية أعلن ماركيز أنه توقف عن الكتابة وأن عام 2005 كان هو العام الأول في حياته الذي لم يستطع فيه كتابة سطر واحد...

شيماء أحمد عيسى

موقع ديوان العرب


ادب المقاومة و المقاومين

صورتي
مراكش, في كل نقطة حمراء, Morocco

موجة حر

موجة حر
تستمر حملة التضامن مع بارا ابراهيم المعتقل : كاتب المجموعة المحلية لاطاك افني